لقد دأبت قوات الاحتلال خلال هذه الحرب، كلما كانت ترغب في اجتياح منطقة ما، أن تقوم بخطوة استباقية من خلال عملية استهداف واسعة لهذه المنطقة بعدة أحزمة نارية، وقصف المربعات السكنية بالطائرات الحربية، واستهدافها بقذائف المدفعية بشكل مكثف وجنوني؛ بهدف ترويع وتخويف وتهجير المواطنين الذين لم يرضخوا لتهديدات الاحتلال بشأن التوجّه والنزوح إلى جنوب القطاع، وأيضًا بهدف إيقاع أكبر عدد من القتلى والتدمير للحياة والبنية التحتية، وهذا ما جرى لأهلنا في بيت حانون، وبيت لاهيا المجاورتَين لمدينتِي جباليا.
وذلك ما حدث وعشناه في جباليا، ففي حدود الساعة 12 ظهر يوم 22/12/2023 -وبعد نقل ابنتي لدار الحجة وهي مصابة إصابة بليغة وأثناء إزالة ردم القصف وإعادة تأهيل المكان، كما أشرت لذلك سابقًا- فوجئنا بحمم وقذائف تتساقط علينا بشكل كثيف وعشوائي، وأيضًا بقصف الطيران الحربي أكثرَ من مربع سكني مجاور لنا، وأصبحنا ننادي على الأولاد ونلملم بعضنا البعض، ونبحث عن منطقة آمنة في المكان الذي نقيم فيه.
مرّ بنا الوقت ثقيلًا، حيث كنا نترقّب أية معلومات أو أخبار تصل لنا عن الأهل أو عن جباليا مع كل شخص قادم من جباليا، وبعد المغرب تقريبًا جاءنا خبر أن أهلي قد نزحوا من جباليا؛ بسبب كثافة واستمرار القصف عليهم إلى مركز إيواء
وفي هذه اللحظات الصعبة جدًا والتي وصلت فيها القلوب الحناجر، زأرت زوجتي، وقالت لي اذهب واخرج أنت الآن فورًا إلى أي مكان آمن، ونحن سنلحق بك. حيث أصبحت قوات الاحتلال على مقربة منا، وأصبحنا تحت النيران والقذائف، القرار صعب والنتائج أصعب فما كان منها إلا أن دفعتني وقالت لي توكّل على الله.
خرجت في الشارع هائمًا على وجهي، وقلبي عند عائلتي، وخاصة ابنتي سعاد المصابة التي لم يمضِ على إصابتها ساعتان، وتوجهت جنوبًا باتجاه مدينة غزة، فوجدت الكثير من الأصدقاء والأقارب والجيران أمامي، وذهبنا إلى مركز إيواء مدرسة يافا كونه أقرب مركز لنا.
مرّ بنا الوقت ثقيلًا، حيث كنا نترقّب أية معلومات أو أخبار تصل لنا عن الأهل أو عن جباليا مع كل شخص قادم من جباليا، وبعد المغرب تقريبًا جاءنا خبر أن أهلي قد نزحوا من جباليا؛ بسبب كثافة واستمرار القصف عليهم إلى مركز إيواء مدرسة فهد الصباح في غزة، حيث تم فتح المدرسة لإيواء أهل مدينة جباليا.
وما إن سمعت الخبر حتى هممت أن أذهب إليهم، إلا أن بعض الأصدقاء منعوني؛ بسبب خطورة المكان، وقالوا؛ انتظر إلى الصباح، وقد كان ذلك. وبسبب التعب والإرهاق نامت أجسادنا، ولكن أرواحنا ظلت مستيقظة لم يرُق لها النوم، ولم تذُق طعم الراحة.
وما إن انقشع الليل وبدأت خيوط النهار تشرق، فورًا حملني جسدي المتهالك والمنهك وتوجهت لمدرسة فهد الصباح للاطمئنان على العائلة، وخاصة ابنتي المصابة، وما إن دخلت الصف حتى قام أولادي لاستقبالي واحتضاني إلا ابنتي سعاد على غير عادتها، فلأول مرة ظلت جالسة، فما وجدت نفسي إلا منكبًا عليها -تاركًا الآخرين خلفي- أقبلها من رأسها واحتضنها.
عرفت من زوجتي أنه بعدما خرجت من مكان إقامتنا بفترة تم قصف بناية عمي عطية بالطيران الحربي، مما أدى إلى تدمير المربع السكني الذي تقع فيه، وإلحاق الأضرار بالمنازل المحيطة، من بينها عمارتنا التي نزحنا منها في أول الحرب
وفي خضم ذلك بهدوئها المعتاد وروحها الرقيقة الناعمة، بادرت بكل حنية تعتذر لعدم استطاعتها الوقوف لاستقبالي؛ بسبب الإصابة في ساقها وساد الصمت -دقائق أعجز عن وصفها والتعبير عنها- وبعد لحظات تداركت نفسي وقمت بالتسليم على والدَيَّ وزوجتي والاطمئنان عليهم .
لقد وجدتهم في حال يرثى لها -أبي المصاب، أمي، زوجتي، أولادي، ابنتي المصابة قرة عيني سعاد- غبرة الموت على محياهم ووجوههم سوداء من آثار القصف والبارود والرماد المتناثر من البيوت المقصوفة، وقام بعض الأصدقاء بالعمل على تخصيص جزء في صف (فصل) دراسي لهم للإقامة فيه .
عرفت من زوجتي أنه بعدما خرجت من مكان إقامتنا بفترة تم قصف بناية عمي عطية بالطيران الحربي، مما أدى إلى تدمير المربع السكني الذي تقع فيه، وإلحاق الأضرار بالمنازل المحيطة، من بينها عمارتنا التي نزحنا منها في أول الحرب والتي أصبحت غير قابلة للسكن، وبسبب هذا القصف قررت زوجتي أن تنجو بحياة الأولاد وأهلي من هذا الجحيم، فقامت بإعطاء الأولاد بعضًا من الحقائب المعدة مسبقًا كحال أغلب أهل غزة (حقائب كتف أو ظهر طوارئ، بها بعض الملابس والأغراض الأساسية).
وقامت هي بحمل ابنتي المصابة سعاد ونادت على والدي ووالدتي وخرجوا إلى الشارع، فوجدت عرابة (كارة حمار) بدون حمار موجودة على بعد عشرات الأمتار لجيران لنا في الشارع، وضعت ابنتي سعاد عليها والحقائب وصعد عليها والدي وهو مسن تجاوز 75 عامًا. وفي الطريق وجدت جيرانًا لنا أيضًا نازحين -مع العلم أنهم كانوا من أواخر من خرج من منطقتنا- وقال لهم أغلب الجيران توجهوا إلى مركز إيواء مدرسة فهد الصباح، فأتينا إلى هنا ووصلنا مع المغرب تقريبًا.
والله ما خرجنا منها إلا مرغمين.. غادرنا إلى غزة أجسادًا ولم تغادر أرواحنا جباليا.. وأول ما انسحب الجيش عدنا إليها.
وللقصة والحكاية بقية سنرويها إن كتب الله لنا عمرًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.