في محاولة لتسجيل انتصار يستدرك به معنويات جيشه وشعبه المنهارة، ولإعطاء مبرر لرغبته في إطالة الحرب للهروب من استحقاقات سياسية بالغة الصعوبة ونهاية بائسة لمن كان يقدم نفسه أيقونة سياسية في أطول حكم لسياسي في دولة الاحتلال منذ اغتصابها أرض فلسطين في 1948، جاء قرار نتنياهو باغتيال إسماعيل هنية ضاربًا بالقوانين الدولية عرض الحائط، مستخفًا بالمجتمع الدولي، مقترفًا إرهاب الدولة بكل صلف وعُنجهية.
بتقديري قرار تصفية هنية هو من كبرى الحماقات التي اقترفها نتنياهو على عظم ما سبق من حماقات ارتكبها. فنتنياهو الذي أمعن في جرائمه بحق غزة، فتح الأبواب على مصاريعها ليس في فلسطين فحسب، ولكن في عموم العالم الإسلامي لينشأ جيل بل أجيال تؤمن بالنضال وترفض الخنوع لما عانته من مرارة محاولات الأنظمة الرسمية المستمرة لبث ونشر ثقافة الإذعان والاستسلام والتنازلات.
جموع الشباب والفتية وبل وجميع الفئات العمرية تراقب ما يجري في غزة ما بين تعاطف مع الضحايا وغضب دفين من تواطؤ مع الإجرام الصهيونيّ، ومن المعايير الدولية المزدوجة تلك التي تبكي وتجبر العالم على البكاء على محرقة لم يشهدها ولم يشاهدها سوى بشهادات وروايات
العالم الإسلامي، وبالتحديد العربي منه، تعرض وما يزال لهجمات عقدية وفكرية وثقافية وأخلاقية تستهدفه وتريد بعثرة أولوياته وتنشئته على الحياة الاستهلاكية.
وفي ذات السياق، تمّ تغيير مناهج التعليم ومحاصرة المفكرين والدعاة ونشر مهرجانات الرقص والخلاعة والوضاعة في مجتمعاتنا وتجمعاتنا، والتي توازت مع هستيريا التطبيع مع محتل ينتهك المقدسات ويسفك الدماء.
جاءت أحداث غزة وصمود وصبر الجيل القرآني الغزي وبطولات المقاومة، لتحيي في الأمة مفهوم العزة والكرامة والرفض القاطع للخضوع للاحتلال مهما كانت سطوته وشدة بطشه وحدة جرائمه.
فجموع الشباب والفتية وبل وجميع الفئات العمرية تراقب ما يجري في غزة ما بين تعاطف مع الضحايا وغضب دفين من تواطؤ مع الإجرام الصهيونيّ، ومن المعايير الدولية المزدوجة تلك التي تبكي وتجبر العالم على البكاء على محرقة لم يشهدها ولم يشاهدها سوى بشهادات وروايات، فيما تستمر محرقة غزة ومن شهور عشرة يشاهدها العالم على الهواء مباشرة ومن غير توقّف.
رفض نتنياهو وقف إطلاق النار ووقف حرب الإبادة على غزة لتطول معاناة الغزيين، ومعها يراقب العرب والمسلمون – والشباب منهم على وجه خاص- بطولات وصولات المقاومة وجولاتها وسماعهم لكلمات "أبوعبيدة" وهو يردد مفاهيم إسلامية ونضالية، لتغير ببطء مفاهيم التبعية والانكسار والدونية.
نتنياهو يساهم في تربية جيل فلسطيني غزي شديد البأس لا يرى بديلًا عن التحرير.
استشهاد هنية وردة الفعل العفوية والسريعة في الضفة الغربية والتي شهدت إضرابًا شاملًا، أسقطا تحليلات زائفة ومقولات ساقطة تتهم المقاومة بالإرهاب وباختطاف القرار الفلسطيني. فإذا كانت انتخابات 2006 النزيهة والديمقراطية قد أثبتت عمق شعبية حركة المقاومة الإسلامية والتي جاءت بإسماعيل هنية رئيسًا للوزراء، فإن الغضب الفلسطيني الشامل والعفوي وغير المبرمج على استشهاد الرجل، أثبت أن خيار المقاومة هو خيار الشعب الفلسطيني، وأن الفلسطينيين أكثر تشبثًا بالمقاومة من أي وقت مضى.
الجريمة الصهيونية إضافة جديدة في السقطات والانتهاكات ومنطق إرهاب الدولة والغدر وانعدام الأخلاق، ولكنها ترسيخ لشرعية تمثيل المقاومة للشارع الفلسطيني وشعبيتها العارمة في العالم العربي والإسلامي، وإحراج المطبعين العرب
بل إن حملات التشويه الإعلامية من الإعلام وغيره -كما حملات القمع والبطش الصهيونية- ما زادتهم إلا اقتناعًا وإيمانًا بصدقية المقاومة وإخلاص قادتها وصوابيّة خيارها واختياراتها.
أضاف اغتيال الصهاينة لإسماعيل هنية رمزًا جديدًا وفريدًا للفلسطينيين. فما إن استشهد الرجل حتى تناقلت وسائل التواصل مقاطع من قراءته الندية لآيات من سورة آل عمران تتحدث عن الشهادة، كما انتشرت أحاديثه عن الشهادة ومواقفه بعد استشهاد أبنائه الثلاثة وثباته ورباطة جأشه، لتعطي المقاومة وحاضنتها الشعبية والتي تتوسع يومًا إثر يوم لتشمل غالبية الشعب الفلسطيني، زخمًا معنويًا كبيرًا وذخيرة نفسية وثباتًا.
ثم كانت جنازة الرجل حدثًا تاريخيًا بكل معنى الكلمة، فلقد توافدت جموع المشيعين ومن ساعات الصباح الباكر ومن جنسيات مختلفة ومن جميع الفئات العمرية إلى مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب في يوم صيفي شديد القيظ ليعبروا وبصمت عن حبهم العميق للرجل، وعن تضامنهم الكبير مع غزة وأهلها ومقاومتها، وعن غضبهم من تمادي الإجرام الصهيوني.
الحضور الجماهيري الكبير رغم الظروف الصعبة، واضطرار المشيعين للسير على الأقدام مسافات طويلة تحت شمس لاهبة، إضافة إلى صلاة الغائب التي أُقيمت على الرجل في أرجاء العالم الإسلامي، وبحضور كثيف من إندونيسيا شرقًا إلى المغرب غربًا، أرسلت للعالم وللمطبعين ولدول عربية التزمت الصمت في تعاملها مع الجريمة الصهيونية رسالة بالغة المعنى والتأثير، بأن غضب الشعوب العربية والإسلامية على ما يحدث من حرب إبادة على غزة وأهلها، شديد وعميق، وقد يتفجّر كما تفجّر الغضب في الجامعات الغربية من شهور وبشكل مفاجئ.
باختصار، الجريمة الصهيونية إضافة جديدة في السقطات والانتهاكات ومنطق إرهاب الدولة والغدر وانعدام الأخلاق، ولكنها ترسيخ لشرعية تمثيل المقاومة للشارع الفلسطيني وشعبيتها العارمة في العالم العربي والإسلامي، وإحراج المطبعين العرب، وشحنة غضب تزيد من إصرار المقاومة والشعب الفلسطيني على خيار الصمود والصبر والمصابرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.