يُقال إن الإمبراطور الروماني نيرون، المكروه من شعبه وحاشيته، أراد أن تخضع روما لرغبته، ليعيد بناءها كما يشاء. لكنها رفضت، فأحرقها ووقف على تلة عالية ينظر إليها وهي تحترق وغنى: "ما أروع النيران". فما زاده ذلك إلا كرهًا في أعين رعيته، فثارت عليه العامة، وخرج عليه مجلس الشيوخ وقادة الجيش، واتهموه بالفساد و "خيانة روما"، فاختار الانتحار.
ما أشبه نيرون الأمس، بنتنياهو اليوم، فكلاهما متهم بالفساد ومكروه من شعبه، وكلاهما أراد إحراق العالم لضمان بقائهما في الحكم.
توقيت ومكان الاغتيال في طهران، بالتزامن مع تنصيب رئيس إيراني جديد، قد يبدو خطوة إستراتيجية من إسرائيل تسعى من خلالها إلى إرسال رسالة لإيران بالذات، لكنه يعد كذلك خطوة استفزازية وإهانة كبيرة للدولة الأكثر تسلحًا في الإقليم
يشكل اغتيال إسماعيل هنية في طهران نقطة تحول كبرى في الصراع بين إسرائيل وحماس، مهددًا استقرار المنطقة بأسرها.
الشهيد هنية، المعروف بمواقفه العقلانية، والرجل الذي يمثل التيار السياسي المعتدل داخل حركة حماس، كان أكثر الساعين في مفاوضات وقف إطلاق النار وتسريح المحتجزين في غزة.
باغتياله بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت وهذا المكان، ستُغلق أبواب كثيرة كانت مشرّعة للحلول السلمية، وتُفتح أبواب أكثر للعنف والحرب الشاملة.
توقيت ومكان الاغتيال في طهران، بالتزامن مع تنصيب رئيس إيراني جديد، قد يبدو خطوة إستراتيجية من إسرائيل تسعى من خلالها إلى إرسال رسالة لإيران بالذات، لكنه يعد كذلك خطوة استفزازية وإهانة كبيرة للدولة الأكثر تسلحًا في الإقليم، مما سيزيد من التوتر وتعقيد الأوضاع السياسية، ويعكس هشاشة الوضع الحالي واستحالة تحقيق السلام في المنطقة.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تعد هذه العملية انتصارًا سياسيًا أو خطوة إيجابية في بحر السياسة الذي باتت سفينة نتنياهو غارقة فيه أكثر من أي وقتٍ مضى
مكسب استخباراتي أم خطأ سياسي؟
- هل يُعد اغتيال إسماعيل هنية ضربة موفقة سياسيًا واستخباريًا تحسب لإسرائيل، أم أنها خطوة رعناء غير محسوبة من قبل حكومة نتنياهو؟
للإجابة عن هذا السؤال المُركب علينا أولًا أن نفرق بين النجاح السياسي والنجاح الاستخباري.
لا شك أن اغتيال قائد كبير بحجم رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية يُعد ضربة قوية وانتصارًا ملموسًا للاستخبارات الإسرائيلية، التي كانت تضع رأس هنية على قائمة أولوياتها، مع السنوار وعدد من قادة حماس.
ولا شك أيضًا أن هذه العملية سجلت عددًا من النقاط تُحسب للموساد الإسرائيلي الذي أكد بهذه الضربة أن إسرائيل قادرة مثلما قتلت هنية في قلب طهران أن تستهدف كبار المسؤولين الإيرانيين أنفسهم في عقر دارهم. وهذا بحد ذاته يشير إلى مدى اختراق إسرائيل لإيران أمنيًا، وعلو كعبها عليها عسكريًا واستخباراتيًا.
لكن في المقابل، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تعد هذه العملية انتصارًا سياسيًا أو خطوة إيجابية في بحر السياسة الذي باتت سفينة نتنياهو غارقة فيه أكثر من أي وقتٍ مضى.
لماذا؟ لأسباب عديدة، ليس أولّها الحكم بالموت على عملية المفاوضات لتسليم الأسرى. وليس آخرها فتح جبهات قتال إضافية: (إيران، لبنان، اليمن، وغزة) لا قبل لإسرائيل بها عسكريًا، إلا في حال تدخل الولايات المتحدة لمساندتها، وهذا بدوره يعني جرّ الغرب والشرق إلى حرب شاملة.
- إذن، علامَ يراهن نتنياهو هنا بإقدامه على هذه الخطوة؟
بعد دقائق من الإعلان الرسمي عن اغتيال إسماعيل هنية، وصفت صحيفة "إسرائيل اليوم" عملية اغتيال هنية بـ"التطور الخطير" الذي يمكن أن يعيد بيادق الصراع في غزة إلى مربع الحدة الأول بعد أكثر من تسعة أشهر من الحرب.
هذه العملية تُعد زلزالًا – بكل ما تعنيه الكلمة سياسيًا وعسكريًا- سيضرب عمق منطقة الشرق الأوسط بكاملها ولن يسلم منه لا الداخل الإسرائيلي، ولا حتى المصالح الأميركية في المنطقة.
وبالحديث عن الداخل الإسرائيلي، يجب أن نعلم أن حكومة نتنياهو ذات التحالفات الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل تعاني من معارضة شعبية كبيرة، وهو ما يجعل نتنياهو يرمي بكل أوراقه من أجل إطالة أمد الحرب إلى أطول فترة ممكنة؛ لكي يبقى في السلطة ويحقق أي مكاسب سياسية أو عسكرية قبل مواجهة قضايا الفساد الموجهة له في المحاكم الداخلية.
بينما تسعى الجماهير في الداخل الإسرائيلي للضغط نحو تحقيق صفقة لتبادل الأسرى، وإيقاف الحرب بدلًا من توسيع دائرة الصراع بالاغتيالات واستفزاز الدول الأخرى.
ومن زاوية أوسع، يبدو أن العملية تمت دون استشارة واشنطن، حيث أصدرت الولايات المتحدة بيانًا يفيد بأنها "اطّلعت فقط على التقارير الخاصة بالعملية". وتصريحات وزير الدفاع الأميركي أشارت فقط بعلمهم بـ"خبر" الاغتيال. مما يضع إدارة الديمقراطيين في موقف حرج أمام "البلطجة" السياسية الإسرائيلية وعدم قدرتها على كبح جماح نتنياهو.
هذه العملية تمثل حدثًا هامًا سيؤثر على صورة الولايات المتحدة بقيادة الديمقراطيين وقدرتها على التأثير في القرارات الإقليمية. وقد تدفع هذه التطورات واشنطن إلى إعادة النظر في لغتها المتساهلة مع حكومة نتنياهو، الذي تثبت كل يوم عدم اهتمامها بمصالح واشنطن في الشرق الأوسط.
ليس من المتوقع أن تتأثر الحركة على المدى المنظور بعد اغتيال هنية. فهي حركة منظمة جدًا ولديها نظام هيكلي مرن ومتماسك في الداخل والخارج، يتسم بوحدة الرؤية والهدف رغم اختلاف الأساليب والمقاربات السياسية
حماس وإيران وتداعيات الحدث
إيران ستسعى للرد، خصوصًا بعد أن تأكد توجيه المرشد الأعلى الإيراني خامنئي للحرس الثوري بتوجيه ضربة للداخل الإسرائيلي. لكن ما مدى قوة وحجم وتأثير هذه الضربة؟ كل التوقعات تشير إلى أنها ستكون ضربة قوية من الناحية الكمية، لكن الشكوك تحوم حول جدواها نوعيًا. أي أنها من الممكن ألا تتجاوز التأثير على بعض المنشآت العسكرية والحيوية داخل إسرائيل دون إلحاق الأذى بالجنود والأفراد أو المنشآت الحساسة.
في الجهة الأخرى، من المؤكد أن تكون هناك ردة فعل قوية من قبل حركة حماس، وقد تأخذ أكثر من شكل على الصعيدين العسكري والدبلوماسي.
عسكريًا، قد تشن الحركة في الداخل هجمات صاروخية تصل إلى عمق المدن الإسرائيلية، وستكون في الأرجح مواكبة لهجمات عسكرية منظمة تشنها إيران وأذرعها في لبنان واليمن والعراق.
أما ردة الفعل الدبلوماسية، فمن المرجح أن تتوقف مفاوضات تبادل الأسرى إلى حين. لكن من غير المحتمل أن تغلق حماس هذه القناة بشكل تام. لأن هذا ما يأمل نتنياهو الوصول إليه، وهذا أمر يدركه قادة حماس في الداخل والخارج الفلسطيني.
كما تدرك حماس أن المؤسَّسة السياسية الإسرائيلية أصبحت أكثر انقسامًا حول جدوى الحرب على غزة. ولا يرغب نتنياهو في إنهاء الحرب حتى يتم القضاء على حماس، فتكون بذلك غزة تحت سيطرة حكومته.
سياسيًا كذلك، ليس من المتوقع أن تتأثر الحركة على المدى المنظور بعد اغتيال هنية. فهي حركة منظمة جدًا ولديها نظام هيكلي مرن ومتماسك في الداخل والخارج، يتسم بوحدة الرؤية والهدف رغم اختلاف الأساليب والمقاربات السياسية.
وعلى الأرض، تمتلك حماس قياديين من الدرجة الأولى هما موسى أبو مرزوق وخليل الحية، ومن المتوقع أن يتولى أحدهما إدارة المكتب السياسي خلفًا لهنية في أقرب وقت. وللمفارقة، قد كان من المقرر أن تُجرى انتخابات داخل الحركة هذا العام، لاختيار رئيس للمكتب السياسي لولا اندلاع الحرب، وقد تصبح الانتخابات ممكنة إذا ما تم التوصل إلى اتفاق لوقف شامل لإطلاق النار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.