لم تكن الأنثى بمعزل عن القولبة الاجتماعية قط، لا في ماضيها ولا في حاضرها، وقد طالت جميع أصناف وألوان وأجناس البشر دون تمييز، وشكّلتهم بالطريقة التي قررها الإنسان.
هذه القوالب صنعها الإنسان وقيّد واستهدف، وحكم بها الإنسان على الإنسان، ولا غرو في أن بعض هذه القوالب نجدها مرنة وبرّاقة، بل وتمنح قاطنيها امتيازات حصرية، وبعضها الآخر نجدها صلبة قاسية، رغم أن الزمن قد عفا عليها، وملأها الصدأ والتشققات، تمامًا كالتي تدخلها المرأة قسرًا لتكون "المرأة الصالحة"؛ ليعترف بها المجتمع، ويؤمن بأهليتها البشرية، والأنثوية، مجرد قالب تدخله النساء ليكنّ "نساء بما فيه الكفاية".
لطالما وجد كثيرٌ من الناس أن إلباس صفة العمومية لجميع الأفراد الذين ينتمون إلى فئة أو جماعة محددة، أو تنميطهم بناءً على فكرة أو تجربة سابقة محددة، أسهلُ بكثيرٍ من التفكير المستقل بشيءٍ أو أشخاص من حولنا
قولبة الإنسان للإنسان
وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية تجريدية، نرى أن الإنسان منذ القديم يهوى وضع وتشكيل القوالب، وتحديد الأدوار بشكل راسخ، وتنميط المعيشة البشرية والمحيط البشري، من أجل وضع المعايير لمدى تفوقه في مناحي الحياة عمومًا من جهة، وقمع الأصوات المزعجة من جهة أخرى، فضلًا عن ضمان راحته الأبدية في حالة بقائه طيلة حياته حبيس تلك القوالب، ومن هذا المنطلق يبدأ في إيجاد قيمة لنفسه، سواء من خلال دخول هذه القوالب ونيل القبول المجتمعي، الذي يمنحه خصومات مميزة وتخفيضات حصرية على جرائمه وخطاياه، أو استغلالها للتحكم في حياة غيره وتصييرهم وفقًا لهواه.
ولطالما وجد كثيرٌ من الناس أن إلباس صفة العمومية لجميع الأفراد الذين ينتمون إلى فئة أو جماعة محددة، أو تنميطهم بناءً على فكرة أو تجربة سابقة محددة، أسهلُ بكثيرٍ من التفكير المستقل بشيءٍ أو أشخاص من حولنا، وليس أسهل فحسب، بل أحيانًا يلجأ الإنسان تلقائيًا إلى القولبة والتصنيف، وإطلاق التسميات والأحكام المسبقة، فقط من باب التبعية، التي تدفعه لاتباع المعتقدات والتصورات السائدة عن هذه الفئة في مجتمعه، والتكاسل عن فهم الأفراد بشكل فردي ومنفصل، لأجل تخفيف بعض المهام الذهنية على نفسه وتوفير الوقت، والاستسلام للسيطرة المجتمعية على العقل والتفكير.
لو كانت المرأة المُطالِبة بحقوقها تعلم أنّ هذه هي قدراتها و"طبيعتها" التي فُطرت عليها – كما يدّعي الذكوريون – لظلّت ساكنة مرتاحة، وما باتت تصرخ مطالبةً بما سُلب منها عنوةً باسم "الفطرة" و"المجتمع"
قوالب ملطخة بألوان ذكورية
وقد استغل أصحاب الفكر الذكوري – سواء لأهداف قمعية أيديولوجية أم سياسية -، أو بالأحرى من يريدون روح وجسد المرأة بين قبضة أيديهم، وجودَ الأساس الجاهز للقوالب، ولجؤوا عبره إلى قولبة حياة وأدوار المرأة بشكل خاص، ووجّهوا الأنظمة الرقابية المجتمعية والأسرية إليها، ووضعوها تحت الحراسة المشددة؛ لضمان كبح طبيعتها البشرية، وسيرها في الطريق المرسوم الذي نسجته معتقداتهم وعاداتهم اللاإنسانية المُحاربة للأهلية البشرية للمرأة.
فلو لم يكن التنميط اتجاهًا انتهجه الإنسان منذ الأزل، لتمييز الإنسان – كإيجابيّ أو سلبيّ المقصد-، وتسهيل التعامل مع الناس في إطار نظام طبقي، لَمَا استطاع الذكوريّ قولبة حياة المرأة، إذ إن هذه القوالب المهينة والقامعة للمرأة تعتمد في جذورها على قوالب موجودة بالفعل، سواء تلك التي أوجدتها المجتمعات نفسها، أم الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية.
إنَّ المرأة – على سبيل المثال – يُتوقع منها أن تكون "الجنس الناعم" لأن الرجل بدوره مُقولب في قالب "الجنس الخشن"، والمرأة تُعد كائنًا ضعيفًا عاطفيًا هشًا؛ لأنهم أرادوا من الرجل أن يكون الكائن القوي الشجاع الصلب، ولو كانت هذه القوالب غير حقيقية، ومجرد تباينات تفصل الطبيعة الذكورية عن الأنثوية، لما وجدنا من يخرجن خارج هذه القوالب يحققن ما لا تحققه أسيرات القوالب المجتمعية اللواتي اخترن البقاء على "طبيعتهنّ".
لو كانت المرأة المُطالِبة بحقوقها تعلم أنّ هذه هي قدراتها و"طبيعتها" التي فطرت عليها – كما يدّعي الذكوريون- لظلّت ساكنة مرتاحة، وما باتت تصرخ مطالبةً بما سُلب منها عنوةً باسم "الفطرة" و"المجتمع"، لكنّها تكافح وتقاتل وتتمرد وتخسر وتفقد وتخرج في الاحتجاجات وتصنع الشعارات والحركات التوعوية؛ لأنّها تعلم أنّ هذه ليست حدودها الطبيعيّة، وأنها ليست مجرد آلة تعمل في قالب محدد فقط، وإلا فقدت هويتها البشرية، بل تريد أن تستعيد ما أفقدها إياه النظام الذكوري، وأن تستعيد مسمّاها "امرأة" بوصفه كلمة إيجابية وليس وصمة عار سلبية.
على الرغم من قِدم هذه القوالب النمطية والصدأ الذي بات يأكلها بالفعل، فإنها لا تنكسر أبدًا على مرّ الأزمنة، ولا تزال المرأة تدخلها، وتدور في فلك "حقوق المرأة" التي هي حقوق الإنسان في الأصل
المساواة.. وأخذ مكانة الرجل
ولطالما ردد من يرتعدون رعبًا من معجم مصطلحات "المساواة" و"حقوق المرأة" أنّ هذه الأفكار الطبيعية تهدف إلى أخذ المرأة مكانة الرجل، وإنقاص قيمة الرجل، وتهديم مفهوم الأسرة، وكأنهم لا يعلمون كل العلم أن هذه الأدوار النمطية صنعها أسلافهم لأغراض محددة، وأحيانًا يلمعونها ويرقعونها لتبدو متماسكة من الخارج، وكأنهم لا يعلمون أيضًا أن المرأة وإن دخلت هذه القوالب فليس ذلك بمحض إرادتها، وإنما لأنّها وُلدت داخلها غصبًا، ولأنها تعلم أن الضغوط المجتمعية ستطاردها طيلة حياتها، ما إن فكرت بالخروج عنها.
ولو استخدمنا نموذجًا دقيقًا في الرد على هؤلاء المدّعين، لما وجدوا مبررًا لكلامهم، بل وقد ينهارون ضحكًا على ما يحاولون إثباته دون أدنى درجة من المنطقية أو الوضوح؛ فلو سألنا أحدهم -على سبيل المثال- "كيف تأخذ المرأة مكانة الرجل إذا نالت حقوقها بصفتها إنسانًا؟" لما عرف كيف يرد.. فالمرأة تُريد أن يكون لها حق الدراسة والعمل والسفر والاختيار، ونيل الفرص بشكل متكافئ، وهي لا تطالب بـ"التحول إلى جنس مختلف"، أو إحلال السلطة الأنثوية مكان الذكورية، وإنما تريد إلغاء مفهوم السلطة نفسه.
وهل المساواة في الحقوق والفرص تعني أن أحدهما يجب أن تُطمس كينونته، ويطغى أحدهما على الآخر؟ كيف تهدم حرية الاختيار أصلًا "مفهوم الأسرة"؟ أليس الأكثر منطقية أن القوالب التي تفرض سلوكيات محددة على المرأة، وتجبرها على تحمّل العنف الجسدي واللفظي، هي من تهدّم بناء وتنشئة الأسرة ذاتها، بل وتخلق أجيالًا قابلة للعنف وهشة نفسيًا؟ لا شك في أنهم يعلمون الإجابة، ويعلمون أن عقليتهم وأفكارهم ليست جديرة بأن تحتل حيزًا صغيرًا في أي عقل، لذا يلجؤون لزرعها في أدمغة الناس منذ الصغر، لتتشرب أدمغتهم هذه المعتقدات، وتصبح الوقود الذي يسيّر عقولهم في الحياة.
على الرغم من قِدم هذه القوالب النمطية والصدأ الذي بات يأكلها بالفعل، فإنها لا تنكسر أبدًا على مر الأزمنة، ولاتزال المرأة تدخلها، ولا تزال تدور في فلك "حقوق المرأة" التي هي حقوق الإنسان في الأصل، فحقوق المرأة كما نعلم جميعًا هي عبارة عن شيء واحد فقط: حقّ المرأة في نيل حقوق الإنسان.
وإن لم يدرك الجميع – ذكورًا وإناثًا- خطورة القوالب النمطية للجنسَين على المجتمع والأفراد، وضرورة استحداث توجهات جديدة مبنية على الاعتراف الكامل ببشرية الجنسين، فلن يستطيع الجنس الأنثوي تجاوز منظومة التسلط والتهميش، واعتبارها حقبة تاريخية معتّقة بالنسبة للأجيال القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.