هي فرصة عمل، أو – كما أصبحت لأكثرنا – فرصة عُمْر، فالحالة التي وصلنا لها من تردٍّ في الدخل وشحٍّ في فرص العمل، جعلت العمل جلَّ أحلامنا.
وصلت بنا الحال أن صار أكثرنا يقول: لا أهتم بماهية العمل وحتى إن كنتُ صيدلانيًّا، لا مانع أن أعمل في جمع البيانات، أو أي شيء آخر.. وكأن الدراسة التي أخذت من عمرنا ما يقارب نصفه ذهبت هباء، وتكبر المصيبة حينما نرضى بأي عمل، ثم بالرغم من هذا لا نجد!. قال لي أحدهم منذ عدة أيام بعد أن رأى حالتي وأنا أشكو له وضعي: لا أحد يصل لما يطمح من غير تعب.
قررتُ أن أفتح صيدلية، كان الأمر يتطلب مبلغًا يقارب اثني عشر ألف دولار أميركي، لفتح صيدلية صغيرة بشارع فرعيّ خالٍ من البشر تقريبًا
فكرت كثيرًا بكلمته، وجدتُ أنني أصلًا أطمح للتعب هذا.. تخرجتُ في كلية الصيدلة قبل عامٍ من الآن، وأذكر أنني من حينها إلى الآن، تقدمت إلى ما يزيد عن مئتي شاغر، بلغ بي الأمر أن أتقدم إلى شاغر وظيفي وهو "مُشغِّل مولِّدة"، وحتى هذا الشاغر لم تتم دعوتي لإجراء مقابلة بشأنه.. أحيانًا أخاف أن يصبح حُلمي المقابلة لا العمل، بالرغم من هذا قلتُ لن أستسلم، عليَّ أن أفكر بالعمل الحر.
قررتُ أن أفتح صيدلية، كان الأمر يتطلب مني مبلغًا يقارب اثني عشر ألف دولار أميركي، لكي أفتح صيدلية صغيرة بشارعٍ فرعيّ خالٍ من البشر تقريبًا. طرقتُ أبواب الأحبة والأصدقاء والأقارب، ولكني لم أجد عند أحدهم ما يعينني على هذه الخطوة، وكما يقول أغلبهم "الحال من بعضه"، ثم اتصلت بي زميلة وأخبرتني عن شاغر وظيفي (مندوب علمي) بمستودع أدوية، وأخبرتني أنها ستتحدث مع صاحب المستودع لتسيير الأمر.
بعد عدّة أيام اتصلوا بي ودعوني للمقابلة، ذهبتُ بكامل أناقتي مراعيًا البند الذي تعلمته في مادة التسويق الصيدلاني بالجامعة، والذي ينصّ على أنّ مظهر المندوب من أهم عوامل نجاح المقابلة، وصلت إلى المستودع الذي لا يمتّ لحقيقة المستودع بصلة، حيث إنّ جميع شروط تخزين الدواء مهملة!. قلتُ لنفسي اصبر ولا تدقّق، استقبلني أحدهم وأجلسني في غرفة الانتظار، وبعد ما يُقارب نصف الساعة، قال لي: المدير بانتظارك.
شكرته وغادرت كارهًا هذا المجتمع الذي يجعل شخصًا لا يعلم الفرق ما بين الباراسيتامول والبروفين يستخفّ بمن أمضى ما يقارب ثلاثة أرباع عمره في الدراسة
كان مظهر المدير لا يدلُّ على أنه شخص متعلم، سألني بدايةً: كيف تقنع الطبيب بالمستحضر؟ تذكرت الفقرة التي تنصّ على أن طريقة إقناع الطبيب تعتمد على نوع الطبيب، إذ يتم تصنيف الأطباء إلى أربعة أنواع حسب شخصياتهم، ويتمّ هذا التقسيم قبل مقابلة الطبيب، ومن ثمّ تجهيز طريقة إقناع تناسب شخصية الطبيب، وحين أخبرته بما عندي، نظر ساخرًا، وقال: "أتعمل براتبِ خمسمئة ألف ليرة سورية (أي ما يقارب الـ 35 دولارًا)! قلت له: ألم تقسُ على حالك قليلًا؟
شكرته باحترام وغادرت كارهًا هذا المجتمع الذي يجعل شخصًا لا يعلم الفرق ما بين الباراسيتامول والبروفين يستخفّ بمن أمضى ما يقارب ثلاثة أرباع عمره في الدراسة، وإلى الآن ما زلتُ أنا وكثيرون ممن حالهم يشبه حالي، نبحث عن فرصة عُمْر في فرصة عمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.