تزخر أيامنا بالمحن والعقبات والحواجز، حيث تمتحن القدرات، فيعبر الأجدر ويسقط الخائبون..
نجح قليلون في امتحان غزة، وسقطت الغالبية في اختبار العزة والخذلان!
"الامتحان عتبة نجتازها من أجل ضمان رغيف الخبز".. هكذا كان يلقننا بعضهم قديمًا في عهد الدراسة، لنردد القول، ويخفف عنا وطأة التحضير للمواجهة الكبرى.
لم أنسَ احتفال كل أبناء الحي وتهانيهم للعائلة حين ظفرتُ بالشهادة الموعودة، ذلك لأن اجتياز الباكالوريا ظل الأكثر أهمية بعد عبور امتحان السادس الابتدائي.
ما أزال أذكر يومًا من شهر يونيو/ حزيران 1984، حين زُف لي خبر اجتيازي "الباكالوريا".. لأكون أول الفائزين بالشهادة المجيدة من أبناء أسرتي المتواضعة.
عُرفت هذه الفترة في جلّ البلاد بوقت الحصاد، إذ يتزامن ذلك مع إعلان نتائج الامتحانات الدراسية، وخاصة منها الباكالوريا (الثانوية العامة).. كانت الأعناق قبل عقود تشرئب لشباك يطل منه مدير الثانوية، تهتز القلوب شوقًا وتنحبس الأنفاس وترتقب تلاوة لائحة الفائزين والمؤجلين.
كنا في زماننا نحتشد في غرف أو مكتبات عامة، نذاكر ونراجع ونتعاون في دراسة المواد الصعبة، وخاصة منها المناطق المعتمة من برنامج الرياضيات والفلسفة.
لم أنسَ احتفال كل أبناء الحي وتهانيهم للعائلة حين ظفرتُ بالشهادة الموعودة، ذلك لأن اجتياز الباكالوريا ظل الأكثر أهمية بعد عبور امتحان السادس الابتدائي.
في كل سنة يتجدد الموعد الصعب، حيث يواجه الملايين من الشباب العربي -طلابًا وتلاميذ- امتحانات هامة محددة لقادم جولات حياتهم.
عادت الذكرى من جديد قبل أيام مع ميزات مختلفة.. فبعدما أعلنت النتائج تميُّز نجباء من تلاميذ المدارس الثانوية، يجمع بينهم مع الطموح والمثابرة تلقيهم دروسًا خصوصية وحصص تقوية طوال العام.. ما يؤكد أن المدرسة العمومية تمثل مصعدًا اجتماعيًا تقليديًا متاحًا لمن استطاع إليه سبيلًا..
والمحزن أن المصعد بات بلا كهرباء، والطريق إلى السطح – حيث الشمس- باتت وعرة محفوفة بالمخاطر، بينها الحُرقة أو الهجرة السرية. وباتت الباكالوريا أيضًا وسيلة لإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي، حسب رأي بورديو.
وتعلَن نتائج الامتحان هذه السنة، والشعوب العربية والإسلامية وشعوب الإنسانية تواجه امتحانًا مصيريًا لا تُعرف إلى الآن نتائجه، والعالم بين من يجزم بفشل الإنسانية في اختبار ضميرها الغالي في مادة غزة الأساسية، ومن يعلن أن الامتحان مطول، والفرحة لا تزال مؤجلة، فالاختبار على مراحل ودورة التدارك لا تزال متاحة للمؤجلين.
تبقى أمام الجميع فرص، وتتاح محطات لترويض المصاعب، وتجاوز امتحانات بينها ما هو قابل للتكرار والتدارك، ومنها امتحانات مصيرية تعطي نتائجها القرار النهائي بالمآل والمستقبل القادم في باقي العمر.
في كل سنة يتجدد الموعد الصعب، حيث يواجه الملايين من الشباب العربي -طلابًا وتلاميذ- امتحانات هامة محددة لقادم جولات حياتهم.
تتفاوت طرق المواجهة وأشكال الاستعداد، بحسب النظرة والتمثيل، وزاوية نظر الشباب لتلك المناظرات والامتحانات، بين من يعتبرها محطات مفصلية لإثبات الذات والعبور إلى أشواط جديدة من البذل والتحصيل والعطاء، ومن يراها مواجهات محتومة لتخطي حواجز العجز والسلبية والانهزامية.
الوعي بتحديات الواقع ورهانات المصير الوطني والقومي وحده كفيل بتعديل نمط تعامل شبابنا مع الامتحانات، من حيث هي منعرجات ومراحل تنفتح على آماد متجددة من التضحية والبذل والبناء.
وشباب الأمة ذخيرتها الحية، وعدتها لمواجهة استحقاقات المستقبل، والشبابُ المتبصّر، المسلّح بعدة العزم والإيمان والالتزام، والطافح أملًا وطموحًا، مؤهلٌ لأكثر من مجرد تحصيل شهادة أو تدوين اسم في قائمة الناجحين.
هم بين محبطين من الخيبات ومن إخفاقات في امتحانات دراسية تحول بينهم وبين مواصلة الحركة، وترتسم لهم كأنها نهاية الدنيا، وبين من يولّدون في كل لحظة حلمًا، وينجبون مشروعًا، ويتدفقون أملًا لا ينقطع في مواصلة الجهد والمغالبة والتحدي، ودفع ضريبة النضال علمًا وتحصيلًا وتجديدًا لبلوغ غايات اكتفاء الوطن غذائيًا، وتحقيق أمانه الاقتصادي والحيوي.
فالوعي بتحديات الواقع ورهانات المصير الوطني والقومي وحده كفيل بتعديل نمط تعامل شبابنا مع الامتحانات، من حيث هي منعرجات ومراحل تنفتح على آماد متجددة من التضحية والبذل والبناء.
ومن شبابنا من يبذل العمر في غزة مهرًا لفداء الأرض، واستعادة الوطن السليب.
فالذهنية السائدة، والثقافة المشكلة لسلوك الجيل وفعله ومبادراته، هي بمثابة محركات دفع لرسم اتجاهات ومعالم لمستقبل يتجاوز حدود الخلاص الفردي، ويتعدى خارطة الحُلم الشخصي والعائلي الضيق، ليصل إلى آفاق أرحب في خدمة قضايا الوطن، والاستجابة لاحتياجات الأمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.