أعادتني الذاكرة إلى صباح الثاني والعشرين من شهر مارس/آذار عام 2004، كان صباحًا باردًا، يدب الربيع فيه رويدًا رويدًا، وقد اعتدنا حينها أن يوصلنا الوالد الكريم إلى أقرب ما يُمكن إلى المدرسة، ومن ثم نستكمل الطريق مشيًا، وفي ذلك الزمن لم تكن وسائل التواصل والاتصال كما عليه الحال اليوم، فقد كانت النشرة الإذاعية الصباحية إطلالة على التطورات والمستجدات، وقد هالني صوت المذيع، عندما قرأ خبرًا صادمًا.
"إسرائيل اغتالت الشيخ أحمد ياسين في غزة" ولكني يومها لم أتماك نفسي، وقد سمعت خبر اغتيال الشيخ المجاهد القعيد أحمد ياسين بعد خروجه من صلاة الفجر، غصّ الحلق وازدحمت الأسئلة في رأس ذلك الفتى، لماذا يغتالونه وهو على كرسيه المتحرك، ما هو الخطر الذي سيسببه لهم، وبقيت كذلك متوجمًا كئيبًا، ومع العودة إلى البيت ورؤية ما بقي من كرسي الشيخ، كان الغضب والحزن يستبدان بي أيما استبداد.
وقد تكاثفت في نفسي الأسئلة كرّة أخرى، عندما استيقظت صباح اليوم، لأجد خبر اغتيال المجاهد إسماعيل هنية قد ملأ كل منصة وقناة، شعرت بذلك الضيق نفسه، ولم تحضر الأسئلة ذاتها، فقد عرف المرء ما غاب عنه حينها، عن توحش المحتل ومن خلفه كل مستعمر، عن تغولٍ مدعوم من كل قوة مهيمنة في هذا العالم، عن آلاف الشهداء الذين يرتقون في هذا الدرب الطويل، عن التضحيات الجليلة في طريق التحرير، عن الثلة المباركة التي ترتقي في أتون هذه المعركة.
فاجعة الفقد أوسع من العبارة
- الكاتب وليد سيف
لم تنعقد المقارنة، ولم تهج الذكريات من الذات فقط، بل لعلاقة الشهيدين الياسين وهنية، فكثير من صور الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، كان هنية معه فيها، فقد كان مدير مكتبه، وأحد أقرب الناس إليه، وهي سلسلة ذهبية من القادة الأجلاء، ولا حاجة لكيل المديح له، فصدق مآله هو أعظم ما يُمكن أن يمدح به، لم يكن بعيدًا عن أهله ونبض الناس في غزة، وفي الشتات، فقد قدم عشرات من الشهداء، من بينهم أبناؤه، وعندما أتاه الخبر، وقف صابرًا في صورة تستكمل مشهد البطولة ذلك.
يقول الكاتب الكبير وليد سيف: "إن فاجعة الفقد أوسع من العبارة"، فكيف بنا متحدثين عن أناسٍ لهم هذا الأثر العظيم، وذلك الحضور المهيب، ممن أسهموا في تكويننا، وحجزوا لأنفسهم حيزًا في ذاكرتنا.. لقد ارتقى هنية، وهو يُبصر طريقه، ويعرف أن الشهادة ثمنها عظيم، ولكنهم ارتضوا المنية لئلا يعطوا الدنية.
ليالي الشهادة عبقة بكل معاني الفضيلة والعنفوان، يودع الشهيد هذه الدنيا، بأبهى حلة وأجلّ موقف، يمضي الشهداء تاركين أثرًا لا يمكن أن ينسى، سيظلون ذكرى على ألسنة السالكين في طريق المقاومة، يتمتم بها العارفون، فالتضحية في سبيله هو التجرد الأسمى، ليكونوا بعدها في جوار رب العزة جلّ في علاه.
بورك السالكون إلى العلياء..
لقد أبصروا الطريق، ولحقوا بالركب، والموعد الجنة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.