لم يتح لقائد إسلامي معاصر من الرمزية الجامعة بين زعامة الدين والدنيا ما أتيح للقائد الشهيد إسماعيل عبد السلام هنية؛ فهو رئيس الوزراء المنتخب في زمن الدكتاتوريات العربية، وهو السياسي الملهم وخطيب الجمعة الذي تنتظره الجماهير في المشرق والمغرب لتسمع أصداء قضيتها العادلة، وهو صاحب كلمات العز الرافضة للخنوع والاعتراف بإسرائيل، وهي الشعارات التي أضحت دستورًا أخلاقيًا يضعه الملايين في رنات هواتفهم ليتذكروا قدسهم وأقصاهم.
وهو المجاهد والرمز الاجتماعي والمربي الذي يؤم المصلين في صلاة التراويح يحبّر كتاب الله تحبير الصدر الأول، ويرتقي بمأموميه منازل التزكية في جو روحاني يقف بهم متدبرًا آيات الشكر والصبر والابتلاء والتمكين والشهادة سائلًا الله أعلى المنازل، مستذكرًا آلاف السابقين من الشهداء الذين ارتقوا من غير تبديل ولا تحريف، متضرعًا إلى مولاه يسأله اللحاق بهم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مزلة.
الدكتور إسماعيل هنية مجاهد لم يذق طعم الراحة لحظة، ناضل في صفوف الطلاب، وقاد الكتلة الإسلامية في جامعة غزة، والكتل الإسلامية في فلسطين من مصانع الرجال ومن مدارس تخريج قادة الشهادة؛ فمنها تخرج الشهيد صالح العاروري والقائد الأسير إبراهيم حامد في الضفة، وفي غزة مطلع الثمانينيات تعاقب على قيادة الكتلة الإسلامية خالد الهندي ويحيى السنوار ويحيى موسى وإسماعيل هنية وأسامة المزيني، وكلهم من سادات العصر.
عندما اخترنا "أبو العبد" لخلافة الدكتور عبد العزيز قائدًا للحركة في القطاع، لم يكن "أبو العبد" الأقدم بيننا ولا الأكبر سنًا، لكنّه كان الأكثر إجماعًا وحبًا بين الجميع
- الشهيد نزار ريان
وفي نهاية الثمانينيات نظَّم القائد الشهيد إسماعيل هنية الصفوف وقاد الجماهير في الانتفاضة الأولى، وعرف ظلمة السجون وعسف الجلادين فما لان ولا استلان، وكان مع صفوة الصفوة من هذا العصر في مرج الزهور مبعدًا ثابتًا مع إخوانه حتى عاد مرفوع الرأس إلى غزة مستأنفًا مشواره الجهادي الحافل، والإبعاد إلى مرج الزهور مرتبة بدرية في تاريخ الجهاد الفلسطيني فقد كان رجوع أولئك الأخيار بداية دحر العدو وإرغامه.
امتاز هنية في مشواره القيادي الموفق بالقدرة على جمع القلوب فهو سهل الخليقة لين في أيدي إخوانه، شديد على أعدائه، حباه الله بالقرب من الإمام المعجزة المؤسس الشيخ أحمد ياسين فتلقى أنفاسه المباركة غضة طرية، فكان أمينًا على عهد البيعة مع الله وعلى ميثاق الأخوة، وهذا ما عبر عنه الشهيد المحدث نزار ريان يوم قال: "عندما اخترنا أبو العبد لخلافة الدكتور عبد العزيز قائدًا للحركة في القطاع، لم يكن أبو العبد الأقدم بيننا ولا الأكبر سنًا، لكنّه كان الأكثر إجماعًا وحبًا بين الجميع".
كيف لا يكون أبو العبد الأكثر حبًا بين الجميع وهو الذي يمر به كل شخص يريد لقاء الشيخ أحمد ياسين حين كان يدير مكتبه لسنوات عديدة؛ فالقرب من الكبار يكسب المرء من أخلاقهم وزهدهم وسمتهم الشيء الكثير، وهو المعبر عنه في أدبيات أرباب التربية بأنفاس الصالحين، وفي مصطلحات المحدثين بـ"مشامة الرجال"؛ فالقرب من الصالحين المصلحين فضيلة، والتأسي بهديهم توفيق والثبات على طريقهم اصطفاء.
ترى في قسمات وجه إسماعيل هنية الصبوح كل تاريخ القضية الفلسطينية؛ من انتفاضتها الأولى، وأيام التجنيد في أزقة المخيمات، وبداية التحلق في المساجد، والسعي الدؤوب لإنشاء النقابات المهنية، وتشكيل الخلايا العسكرية الأولى والثانية والثالثة، وترى في وجهه عنفوان الانتفاضة الثانية، وما لحقها من وداع القادة المؤسسين وتحمل الأمانة الثقيلة.
ترى في وجه أبو العبد بشائر تحرير غزة واختيار الشعب الفلسطيني له قائدًا لأول حكومة منتخبة، وترى فيه الثبات في وجه كل الحروب والمحن المتتالية على غزة، وترى في وجهه سيف القدس وطوفان الأقصى وبشائر التحرير، وترى في وجهه استغاثات الأقصى ونداءات القدس وآمال المستضعفين.
حياة هنية وعطاءاته لا يحاط بتفاصيلها؛ فكل لحظة من حياته جهاد وعطاء، وكل كلماته مواثيق تحرير
حاول الصهاينة ومن يدور في فلكهم من العملاء أن يشوهوا سيرة القائد أبو العبد الناصعة، وأن يغتالوه معنويًا بحملات التشويه المغرض، فلما أعجزتهم سيرته انتقموا منه بقتل أبنائه وأحفاده يوم عيد فازداد رفعة في قلوب المسلمين لما وهبه الله من ثبات الجنان وصدق التوكل وبرَد اليقين، وعند عجزهم عن تشويه القمر ليلة البدر لم يجدوا بدًا من التخلص منه شخصيًا ليبدأ حياته الأبدية خالدًا مخلدًا على طريق القدس أرض الأنبياء.
حياة هنية وعطاءاته لا يحاط بتفاصيلها؛ فكل لحظة من حياته جهاد وعطاء، وكل كلماته مواثيق تحرير، وهي من الكلمات التي قال عنها الشهيد سيد قطب: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة"، دبت الحياة في كلمات إسماعيل هنية بشهادته وشهادة أبنائه وهو يقود مسيرة التحرير مهاجرًا مرابطًا.
كانت أكثر كلمات الشهيد القائد إسماعيل هنية وأناشيده عن الشهادة في سبيل الله، كان غيره يخاف من الموت، وهو يخاف ألا يموت قتلًا، أو يقتل وهو على غير الطريق، فهو منذ واحد وستين عامًا والشهادة تلاحقه في كل مراحل حياته، لاحقته في طفولة اللجوء بحي الشاطئ، وفي شباب العطاء الطلابي وهو يقود جموع الطلاب في الجامعة الإسلامية بغزة.
واقتربت منه وهو رفقة شيخه إمام العصر ومجدد الجهاد الشيخ الشهيد أحمد ياسين، ولاحقته منذ تولى قيادة أول حكومة فلسطينية منتخبة، ويوم قاد حركة حماس في غزة، ويوم صار قائدها الأعلى في سنوات سيف القدس وطوفان الأقصى المعركة التي ودع فيها أكثر من سبعين نفسًا زكية من عائلته الكبرى والصغرى.
فالقيادة والشهادة ظلتا محور حياة القائد الشهيد إسماعيل هنية، وها هو اليوم يرتقي شهيدًا ليلحق بأشياخه وزملائه وأبنائه مهاجرًا صابرًا محتسبًا، وصدى مواقفه البطولية وكلماته الخالدة يرن في الآذان: لا، لن نعترف بإسرائيل. ارتقى هنية شهيدًا مقبلًا غير مدبر، وإسرائيل منبوذة والعلاقة بها عار إنساني، أما هو وإخوانه ملء السمع والبصر، يرى فيهم المسلمون منقذين من مهاوي الضياع ومتاهات الهوان، يحيون عهد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن سار على الدرب من قادة الفتح وتحرير المقدّسات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.