يقول الكاتب الأميركي مارك توين: التحسين المستمر أفضل من الكمال المؤجل.
ويُعرّف علم النفس المثالية أنها سمة في الشخص تُظهر الرغبة الشديدة، التي قد تصل إلى حدّ الهوس، بتحقيق الكمال في كل ما يقوم به، وتجنّب القصور والعيوب في عمله وحياته، ويرافق هذا نقد شديد للذات وخوف من آراء الآخرين. وإذا تجاوزت المثالية حدها أصبحت اضطرابًا نفسيًّا.
الكمالية – إذن – هي سمة شخصية يرمي صاحبها إلى الكمال، ونفي العيوب وأوجه القصور ابتغاء الوصول إلى إنتاجيّة كاملة، بوضع معايير بالغة لأداء أي عمل أو قول، يصحبها تقييمات نقدية مبالغة للذات ومخاوف من تقييمات الغير.
كبرنا ونحن نسعى وراء المثالية، في سباق مع أقراننا في المدرسة، وفي سباق مع أفراد عائلتنا وأقربائنا، وفي سباق آخر مع زملائنا في العمل، أو في مناحي الحياة
كم مرّةً تراجعتَ عن الحديث في اجتماع عائلي ظنًا منك بأنك غير مؤهل؟ وكم عدد المرات التي كنتَ فيها تعرف المعلومة الصحيحة، وآثرت الاحتفاظ بها لاعتقادك بأنها غير دقيقة؟ كم عدد الصور التي مزقتَها؛ لأنك لم تبدُ أنيقًا فيها؟ كم عدد المنابر التي لم تعتلِها؛ لأنك لم تشعر بأنك فصيحٌ بما فيه الكفاية؟ كم عدد التجارب التي لم تخضها؛ لأنك لم تشعر بأنك مُستعدٌ بما يكفي؟ وكم عدد الفرص التي فوّتّها؛ لأنك تظن أنكَ لستَ جديرًا بها؟
هو ليس إحساسًا عابرًا ذلك الذي يلحّ على فئة بعينها بأنّ ما تبذله من مساعٍ ليس كافيًا أبدًا، فكل إنجاز ينظر إليه بعين النقص عوضًا عن الكمال، وكل عمل لا بد أن يكون متقنًا مدققًا، متمثلًا بمقاييس ذاتية صارمة وضعها الشخص لنفسه.
ينشأ العديد منا على فكرة أنّ السعي للكمال هدف نبيل، حيث يعزز العديد من الأشخاص هذا المفهوم في حياتنا، ويقوم آباؤنا ومعلمونا ورؤساؤنا بحثّنا على اتباع السلوك المثالي، معربين عن عدم رضاهم عن تلك النتائج، والدرجات غير المكتملة.
كبرنا ونحن نسعى وراء المثالية، في سباق مع أقراننا في المدرسة، وفي سباق مع أفراد عائلتنا وأقربائنا، وفي سباق آخر مع زملائنا في العمل، أو في مناحي الحياة.
الرسام الفرنسي بول سيزان كان يعتقد أن أعماله غير ملائمة ليوقِّع عليها، فكان يتركها جانبًا؛ لأنها لم تكن كاملة من وجهة نظره.. والروائي كافكا لم ينهِ رواياته الثلاث، وأحرق 90% من أعماله في حياته، ولم يكن لِيَعرفه أحد لو نفّذ صديقه وصيته بإحراق رواياته بعد موته؛ لأنه كان يعتقد أنّها لا تستحقّ أن تُقرأ.
العالم معقد وسريع التغيّر، ويتغير بشكل متزايد مع مرور الوقت، ما يترك لنا خيارين فقط: أنّ نتأقلم مع الوضع أو نبقى متأخرين
أنت رائع في القيام بشيء ما، وليس في كل شيء.. هذا الأمر لا بأس به، فكن واقعيًا واعترف بنقائصك. وفي اللحظة التي تجرؤ فيها على رؤية الأشياء كما هي، وتعرف نقاط الضعف الخاصة بك، فإنك تتقبلها، وسوف تشغل لديك حيزًا أقل؛ فالأم غير المثالية ليست أُمًّا سيئة، بل هي إنسانة تُخطئ وتُصيب.
لا تكن مثاليًّا، فيكبر أبناؤك على المثالية، ويحبطهم المجتمع الذي لا يَمُتُّ إلى المثالية بصلة، فيَتعبون ويُتعبون من يُخالطهم، فيعود عليهم بالسلب.
غالبًا ما يُنظر إلى عدم الكمال على أنّهُ نقطة ضعف، وعيبٌ من عيوب الشخصية.. نحن نسعى للكمال دائمًا، ولكن لا يمكننا أنّ نفعل كل شيء بإتقان؛ أي بنسبة 100% في كل وقت.
إذا كنت باحثًا حقيقيًّا عن الكمال، فإن فكرة أن تكون (بلا أخطاء) تسيطر عليك، وتهيمن على عقلك وحياتك، حيث يخضع كل ما تفعله على الفور للنقد الصارم، الأمر الذي يمهد الطريق لإلقاء اللوم على نفسك كلما فشلت في تلبية المعايير العالية غير العملية التي وضعتها لعملك.
لا يوجد شيء كامل، لذا تُعد مهمة السعي من أجل تحقيق الكمال في كل شيء بلا فائدة، كما يتطلب الأمر لتكون شخصًا مثاليًا أنّ تتجنّب ارتكاب الأخطاء، وهذا أيضًا يستحيل تحقيقه
لكن، لماذا يسعى بعض الأشخاص إلى الكمال؟!
هناك العديد من الأسباب المحتملة، والتي تنبع جميعها من الخوف والقلق والتعاسة وامتلاك قناعة غير عادلة فيما يتعلق بـ "كيف يتم قياس قيمة الفرد؟"
- أولها أنّ كثيرًا من الساعين إلى الكمال، يخشون الفشل.
- ثانيها الخزي، إذ يشعر كثيرٌ من المثاليين بالنقص بطريقة أو أكثر، ويشعرون بأنهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية.
إنّ العالم معقد وسريع التغيّر، ويتغير بشكل متزايد مع مرور الوقت، ما يترك لنا خيارين فقط: أنّ نتأقلم مع الوضع أو نبقى متأخرين. فالمثاليون أكثر مقاومة للتغيير، إذ إن التغيير ينتزع منهم السيطرة، ويزيد من إحساسهم بالضعف، في الوقت الذي يجب أن نقبل التغيير ونحلله، ونقرر أفضل السبل للتكيف معه، ويُعدّ هذا تحديًا كبيرًا لمن يسعى إلى الكمال، حيث يخشى المثاليون من المواقف الجديدة، محاولين تفاديها.
إنَّ السلوك المثالي يضعك تحت الضغط النفسي والقلق المستمر، إذ تشعر أن كل ما تفعله يتم الحكم به بواسطة من حولك وناقدك الداخلي، لذا تستنتج الدراسات أن السلوك المثالي يرتبط بالتوتر والقلق، ويمكن أن يؤثر التوتر الزائد على كل جزء من جسمك؛ كالقلب، والأوعية الدموية، والجهاز التنفسي، والجهاز العضلي والهيكلي، والجهاز الهضمي، وأنظمة الغدد الصماء..
كما أن النزعة إلى الكمال تُعيق حياتك المهنية، وتضر بعلاقاتك، وتدمر إنتاجيتك؛ أي – باختصار- تؤثر سلبًا على جودة حياتك ومسيرها.
لا يوجد شيء كامل، لذا تُعد مهمة السعي من أجل تحقيق الكمال في كل شيء بلا فائدة، كما يتطلب الأمر لتكون شخصًا مثاليًا أنّ تتجنّب ارتكاب الأخطاء، وهذا أيضًا يستحيل تحقيقه؛ لأن الأخطاء جزءٌ أساسيّ من الطبيعة البشرية، إذ تدور الحياة وفيها الإخفاقات الكثيرة، ولا بُدّ من التعلُّم منها.
التغيير لمن يسعى إلى الكمال لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن إذا كنت على استعداد لتحدي مبادئك الحالية، فقد وصلت إلى منتصف الطريق، وكل ما تبقى هو اتخاذ إجراءات متّسقة تجاه تغيير وجهة نظرك
لكن ما أسباب الميل إلى المثالية
يرى بعض العلماء أنّ المثالية سلوك مكتسب، تنتج من ضغط الأسرة أو المجتمع منذ الصغر، ومن رغبة الوالدين في تفوق أولادهما، فالضغط يمتد إلى المدرسة والمعلمين. كذلك فإن لضغط المجتمع دورَه من خلال معايير النجاح من وجهة نظره، التي إن لم تتحقق يُعتبر الشخص فاشلًا، لذا ينشأ بداخلنا الخوف والقلق من أن يُؤثر علينا أمام الآخرين، فيدفعنا إلى الرغبة في تحقيق كل شيء بشكل كامل ومثالي.
إن التغيير لمن يسعى إلى الكمال لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن إذا كنت على استعداد لتحدي مبادئك الحالية، فقد وصلت إلى منتصف الطريق، وكل ما تبقى هو اتخاذ إجراءات متسقة تجاه تغيير وجهة نظرك..
لتحقيق ذلك إليك هذه الخطوات المهمة
- اعترف أن المضي قدمًا أهم من تحقيق الكمال، فإنّ اعترافك بالمشكلة سيسهل عليك حلها.
- تصالح مع ناقدك الداخلي.
- اعترف أنّ معنى (النجاح) ومعنى (الفشل) مختلفان عما كنت تفترض.
- ارفق بنفسك، وقلل من معاييرك العالية، واخفض سقف توقعاتك.
- كُفّ عن حساسيتك بشأن النقد، وتعلم قبوله والاستفادة منه، ما دام نقدًا بنّاءً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.