تنقسم الأراضي المفتوحة إلى أرض صلح وأرض عنوة (أي بالقوة)، فأما أرض الصلح فتبقى بأيدي أصحابها بملكية تامة، وعليهم خراجها الثلث أو الربع من إنتاجها، وأما أرض العنوة فللإمام أن يقسمها بين الفاتحين بعد أخذ الخُمس منها للخلافة، أو يتركها بأيدي أصحابها ليزرعوها ويؤدوا خراجها للمسلمين، وتبقى ملكيتها للمسلمين حتى لو أسلم أصحابها.
كان موسى بن نصير، فاتح الأندلس، قد ابتدأ تخميس هذه الأرض بعد الفتح مباشرة، بحضور التابعين الذين دخلوا الأندلس معه، ولكن هذا التخميس لم يكتمل لرحيله المستعجل إلى الشام تلبية لأمر الخليفة الوليد (86هـ – 96هـ)
تخميس أرض العنوة بالأندلس.. لماذا؟
وكانت القاعدة في معاملة أرض العنوة، منذ عهد الخليفة الفاروق، هي تركها بأيدي أصحابها ليزرعوها، مقابل الخراج، وذلك لكي يستمر المسلمون في الفتوحات، ولا ينشغلوا بزراعتها. هكذا جرى التعامل مع أكثر أراضي العنوة في العراق والشام ومصر، أي اعتبارها ملكية عامة (وقف)، لتستفيد منها الأمة على مرّ الزمن، بدلًا من تقسيمها بين الفاتحين، ليستأثر بها جيل واحد فقط.
ورغم أن أكثر أراضي الأندلس، قد فُتحت عنوة، وبخاصة أراضي الجنوب والوسط، كالجزيرة الخضراء، وشَذُونة، وقرطبة، وقرمونة، وإلبيرة، ومالقة، وطليطلة، وذلك بين عامي 92هـ و 95هـ، فإنه لم يتم معاملتها على ذلك الأساس، وذلك أن خلفاء بني أمية اعتبروا الأندلس ثغرًا، ودار جهاد لأن البحر يفصلها عن بقية المسلمين، وانعكس ذلك على معاملة أراضيها التي فُتحت عنوة، فتم اعتبارها غنيمة، وبالتالي تخميسها وتقسيمها على المسلمين الفاتحين، لترغيبهم في سكناها، وتولي أمر حمايتها، وذلك بعد إخراج الخُمس منها للدولة.
مراحل تخميس أرض العنوة بالأندلس
وكان موسى بن نصير، فاتح الأندلس، قد ابتدأ تخميس هذه الأرض بعد الفتح مباشرة، بحضور التابعين الذين دخلوا الأندلس معه، ولكن هذا التخميس لم يكتمل لرحيله المستعجل إلى الشام؛ تلبية لأمر الخليفة الوليد (86هـ – 96هـ)، ثم كان التنظيم النهائي للأرض والخراج بالأندلس، في خلافة عمر بن عبد العزيز (99هـ – 101هـ)، من خلال واليه عليها السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100هـ – ذو الحجة 102هـ).
وقد قام السمح بتخميس جزء كبير من أراضي العنوة هذه، وتوزيع أربعة أخماسها بين القبائل العربية والبربرية، التي يتألف منها الجيش الفاتح، بعد أن أخرج الخمس منها، أو هو بالأحرى أقرّ كل جماعة على ما تحت يدها من أراضٍ بعد أن أخرج الخمس منها للدولة، كما أمره الخليفة عمر الثاني، وذلك أن المسلمين الفاتحين كانوا قد استوطنوا فيها وعمروها، باعتبارها غنائم وصلت إليهم بالحرب، واعتبرتها الدولة إقطاعات لهم، لتوفير مورد ثابت لهم ولأبنائهم، يمكِّنهم من البقاء.
في رحاب هذا المصلى كان أهالي قرطبة يؤدون صلاتي العيدين، وصلاة الاستسقاء، زمن الجدب، كما كانوا يقيمون فيه احتفالات استقبال رمضان، ورؤية الهلال كل عام
التصرف في أراضي الأخماس بالأندلس
وبغض النظر عن استكمال عملية تخميس أراضي العنوة بالأندلس من عدمه، فإن المساحات التي آلت إلى الدولة من جراء هذه العملية كانت واسعة، وقد تم التصرف فيها كما يلي:
- أولا: تخصيص جزء منها لمصالح المسلمين
مثال ذلك أن السمح بن مالك قام بإخراج خُمس إقليم قرطبة، فخرج من الخمس أراضٍ واسعة، وهي البطحاء المعروفة بالربض، والواقعة قبلي قرطبة، على الضفة الجنوبية للوادي الكبير.
أنشأ السمح في هذه البطحاء مقبرة للمسلمين، تنفيذًا لأمر الخليفة عمر الثاني، وكانت هذه المقبرة- بالتالي- أقدم وأشهر مقبرة للمسلمين في قرطبة، وعرفت بمقبرة الربض، وكانت مثوى الوزراء والكبراء والعلماء والعامة من أهل قرطبة.
ونظرًا لاتساعها، فقد ظلت تستقبل الموتى من أهالي قرطبة حتى القرن السادس الهجري، رغم استحداث جبانات أخرى غيرها، فيما بعد. خصص السمح قسمًا آخر من هذه الأرض – وهو ميدان فسيح- كمصلى. وفي رحاب هذا المصلى كان أهالي قرطبة يؤدون صلاتي العيدين، وصلاة الاستسقاء، زمن الجدب، كما كانوا يقيمون فيه احتفالات استقبال رمضان، ورؤية الهلال كل عام.
كذلك كانت تُقام فيها العروض العسكرية المسماة "البروز"، قبل خروج الجيش للغزو، وكان أيضًا المكان الذي تُنفذ فيه أحكام الإعدام، وعرف بمصلى الربض.
وكان الوصول إليه يتطلب المرور فوق القنطرة، وذات مرة حاول كثيرون استخدام القوارب لعبور النهر فماتوا غرقًا؛ فأشار العالم المعروف، عبد الملك بن حبيب، على الأمير بتنظيم الاحتفالات الدينية والاجتماعية في مصلى المصارة، فصوب الأمير رأيه، وانصرف البروز للاستسقاء إلى مصلّى المصارة.
ترك السمح الجزء الباقي من هذه البطحاء لاستيعاب التطور العمراني للعاصمة قرطبة، فنشأ حي جديد ضخم في هذا الجزء، بعد أن أُعيد تشييد القنطرة، واتصل من خلالها بقلب المدينة، وبقصر الأمير والجامع والسوق، واستوعب هذا الحي ألوفًا مؤلفة من السكان الجدد، من الفلاحين والحرفيين والطلاب والعلماء، وكان أغلبهم من المولدين (أبناء المسلمين من أهل البلاد)، وقد اصطُلح على تسمية هذا الحي، باسم "الربض". وإليه نسب الأمير الحَكَم بن هشام (180هـ- 206هـ)، فقيل له الحكم الربضي، لأنه أوقع بأهل الربض، وقتل منهم مقتلة عظيمة بعد أن ثاروا عليه، وتوج الحكم فعلته هذه بهدم هذا الحي، وتحويله إلى أرض زراعية.
غلت مراجل الفتنة سنة 399هـ، ودمر البربر مدينة الزهراء وجزءًا من قرطبة، وأخلوا ما حواليها من القرى والمنازل والمدن، وأفنوا أهلها بالقتل والسبي، ولم يجتمع بعدها شمل المسلمين في الأندلس أبدًا
- ثانيًا: منح قسم من أراضي الخمس للعرب الوافدين
أي العرب الذين جاؤوا للاستقرار بالأندلس، بعد الفتح، ومنهم المجموعة التي دخلتها مع السمح سنة 100هـ. وكان منح هذه الأراضي لهؤلاء العرب كإقطاعات، وفقًا لأمر الخليفة عمر الثاني، بعد أن رفض العرب القدماء، الذين فتحوا البلاد وقُسمت أرضها عليهم، أن يشركوهم فيما تحت أيديهم من الأراضي، على اعتبار أنها إقطاعات أقطعت لهم بصورة مشروعة، فاضطر الخليفة عمر الثاني إلى إرضاء الداخلين الجدد بمنحهم إقطاعات من أراضي الخمس، لتأمين مورد ثابت لهم، لوجودهم خارج بلادهم.
ودفع هؤلاء المقطَعون العُشرَ للدولة، مقابل الغزو بلا عطاء، واستمر ذلك إلى عصر المنصور العامري، الذي أعفاهم من الغزو، مقابل أن يدفعوا جزءًا من أموالهم لتجنيد غيرهم. وبالرغم مما نعمت به الأندلس أيام المنصور من الاستقرار والعزة والرخاء، فإنه كان لسياسته هذه أثر سلبي، إذ إنه على المدى الطويل تسلّط الجباة على الرعية، حتى قلت الأموال وخربت الأراضي.
- ثالثًا: ترك باقي أرض الخمس لتزرع لصالح الدولة
أي أنّ هذه الأراضي المتبقية من أرض الأخماس، بقيت موردًا ثابتًا للدولة، وظلت كذلك طوال عهد الولاة، حتى نهاية عهد الخلافة، إلى أن غلت مراجل الفتنة سنة 399هـ، ودمّر البربر مدينة الزهراء وجزءًا من قرطبة، وأخلَوا ما حواليها من القرى والمنازل والمدن، وأفنوا أهلها بالقتل والسبي، ولم يجتمع بعدها شمل المسلمين في الأندلس أبدًا، وعمت فيها الفوضى، فصار كل من غلب منها على موضع ملكه واستعبد أهله، وكثر فيها الأمراء، فضعفوا وصاروا تحت إمرة النصارى يؤدون إليهم أضعاف ما كان المسلمون يأخذون منهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.