ظن كثيرون أن النظام الديمقراطي الغربي (أوروبا، وأميركا) سوف يحقق السعادة للبشرية، والعدالة للإنسانية، والرفاهية للجميع، إذ إنه رفع شعارات الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، وبخاصة للأطفال والنساء، بل بُني –ادعاء- على إرادة الإنسان الحرة، والإنسانية المحضة.
اليوم نشاهد مدى عجز الأمم المتحدة، بل العالم الحر، أمام ما تفعله دولة الاحتلال الصهيوني في غزة والضفة من جرائم حرب متنوعة ومتعددة، وإبادة جماعية، وخرق واضح لجميع القوانين التي تسمى بالقوانين الإنسانية
ولكن فوجئ المعجبون بهذا النظام بأن الدول الغربية نفسها هي التي قامت في معظمها باحتلال معظم العالم الإسلامي والعالم الثالث، وعاثت فيهما فسادًا، وظلمًا وطغيانًا، واستغلت مواردهما البشرية والمالية لصالحها، ولإفقار شعوبهما، وإشغالها بالحروب الأهلية والإقليمية، بل استعبدت من أمكن، واسترقت رقابهم في رحلات مهينة من أفريقيا وغيرها، إلى أميركا وبريطانيا وغيرهما.
ومع كل ذلك ظهرت الصراعات بين هذه الدول الديمقراطية المتقدمة ذاتها، فوقعت حربان عالميتان مدمرتان خلال النصف الأول من القرن العشرين: (الأولى 1914-1918 م، والثانية 1939-1945 م) راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، وأنفقت مئات المليارات من الدولارات، التي لو صرفت على التنمية لحولت الأرض إلى جنة الله – تعالى – في الدنيا.
ثم ظن الناس أن الدول الغربية تعقّلت، واعتبرت من هاتين الحربين للوصول إلى نظام عادل يحقق الخير للبشرية.. وفعلًا، أنشأت الدول المنتصرة مؤسسة الأمم المتحدة على أساس حماية السلم الدولي والأمن العام، ولكنها أدخلت في نظامها نظام النقض (الفيتو) لخمس دول كبرى، وعندئذ مارست هذه الدول العنصرية والميزة الخاصة للدول الخمس الكبرى: (أميركا، بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفياتي السابق؛ والصين)؛ أي أن أي دولة منها لها حق النقض (الفيتو) على أي قرار، حتى ولو أجمعت عليها الدول جميعها ما عدا تلك الدولة المعترضة، وهذا يعني أنه لا قيمة لأصوات (192) دولة اليوم إذا عارضت إحدى هذه الدول الخمس.
ومع كل ذلك جعلت للأمم المتحدة عدة أهداف مهمة، منها صون السلم والأمن الدوليين، ومنع النزاعات، وبناء السلام، وحماية حقوق الإنسان في السلم والحرب. ولكن وقعت خلال وجود الأمم المتحدة من العام 1945 م إلى الآن أكثر من 250 حربًا داخلية أو إقليمية، ولم تستطع هذه المنظمة الدولية أن تمنعها، كما أنها عجزت أن تعالجها بعدل، وإنما كان قانون القوة (الغابة) هو السائد، فالقوة هي التي كانت تحسم، وفي الغالب حسب مصالح إحدى الدول الكبرى.
ما شهدناه في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 م كان صادمًا لكل القيم، وخارجًا عن الأخلاق والدين
واليوم نشاهد مدى عجز الأمم المتحدة، بل العالم الحرّ، أمام ما تفعله دولة الاحتلال الصهيوني في غزة والضفة من جرائم حرب متنوّعة ومتعددة، وإبادة جماعية، وخرق واضح لجميع القوانين التي تسمّى بالقوانين الإنسانية؛ فالشعوب الحرّة، والمنصفون في العالم، والجامعات الحرة، كلها تتظاهر ضد هذه الجرائم، وترفع صوتها ضد هذه الإبادات المتكرّرة المتنوعة، ولكنها لا تجد لها آذانًا صاغية، بل رفضًا واستهتارًا من قبل دولة الاحتلال، لأنها -أي دولة الاحتلال- تعتمد على قوّتها، وقوة أميركا وإنجلترا وألمانيا، وإيطاليا وفرنسا، تلك الدول التي تقف معها – وبخاصة أميركا – بجميع قواتها العسكرية ودعمها اللامحدود، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.
فاليوم يستطيع العقلاء أن يقولوا بكل قناعة: إنّه لا يوجد أي نظام دولي يحمي المستضعفين، ولا أية مؤسسة أممية تستطيع فرض العدل والحق والقانون على الدول الخمس.. لذلك فالعالم بأمسّ الحاجة إلى نظام عادل للإنسانية جمعاء.
وقد ثبت من خلال التاريخ الطويل أن الأنظمة والقوانين البشرية لا تخلو من العنصرية، والميزة لأهلها دون الآخرين؛ فالقانون الروماني القديم – مع أنه من تشريع البرلمان – قام على تمييز بين مَن هو روماني، وهذا له كامل الحقوق بما في ذلك الأهلية الكاملة، ومَن ليس رومانيًا حتى ولو كان مواطنًا. والقوانين الغربية التي بُنيت على الديمقراطية ظنّ المغترون بها أنها عادلة، وقائمة على المساواة والحرية بين الجميع، ولكن ظهر اليوم بشكل واضح عدم المساواة حتّى مع المتجنسين، وهؤلاء قد تسحب الجنسية من أحدهم إذا أبدى مواقف معارضة لبعض القضايا مثل الشذوذ الجنسي والمثلية، أو أظهر تنديدًا بجرائم الصهاينة في غزة، أو نحو ذلك.
ومن جانب آخر، فإن العالم الغربي لم تبقّ منه أية مبادئ ثابتة في مجال الفِطرة والأخلاق، حيث نرى الأوضاع السياسية الظالمة – كما أشرت إليها بإيجاز -، ونرى كذلك أنه حتى الثوابت الفطرية – مثل الاعتراف بالذكر والأنثى – لم تعد ثابتة!. فهذا الواقع الذي استقر عقلًا وفطرة ودينًا، منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم، أصبح محل شك، بل أصبح الاعتراف به جريمةً، والاعتراف بالمجتمع المثلي (الشذوذ) واجبًا، وأن الطفلَ ليس ذكرًا ولا أنثى إلى أن يختار جنسه.. وما شهدناه في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 م كان صادمًا لكل القيم، وخارجًا عن الأخلاق والدين.
العالم اليوم بأمسّ الحاجة إلى الإسلام الذي يعيد الإنسان إلى الفطرة السليمة، ويبنيه على الأمن الداخلي عَقَديًا، وعلى القيم الأخلاقية ليكون صالحًا ومصلحًا، ونافعًا لنفسه وللآخرين، وعلى المبادئ والعدالة لإقامة مجتمع عادل
أمام هذه السيولة في السّياسة، والمنظومة العَقَدية والأخلاقية، والأسرية والفطرية، يبقى الإسلام وحده قادرًا على تحقيق العدالة والمساواة، وحماية الأمن والسلم العالميَين، وبخاصة لأنه يقوم على القرآن الثابت الذي {لا يأتيه البٰطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42).
وقد طبقه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن معه، فقاد البشرية نحو الخير والعدل، والعزة والرحمة، والأمن النفسي والاجتماعي.. ولنضرب لذلك مثالًا في بيان العدل؛ حيث أمر الله – تعالى- بتطبيقه في جميع الأحوال والأماكن، وعلى كل شخص، حاكمًا كان أو محكومًا، أميرًا أو مأمورًا، حتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه، وفي حالتَي الرضا والغضب، وفي حالتَي المحبة والبغض، فقال – تعالى -: {يٰٓأيها الذين ءامنوا كونوا قوٰمين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنـٔان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة: 8)، وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيمًا} (النساء: 105).. حيث نهى الله نبيه أن يدافع عن أي خائن مهما كان دينه، حتى ولو كان الظاهر منه أنه مسلم، بل أمره أن يكون مع صاحب الحق، ولو كان غير مسلم.
ولذلك نقول بكل قناعة: إن العالم اليوم بأمسّ الحاجة إلى الإسلام الذي يعيد الإنسان إلى الفطرة السليمة، ويبنيه على الأمن الداخلي عقديًا، وعلى القيم الأخلاقية ليكون صالحًا ومصلحًا، ونافعًا لنفسه وللآخرين، وعلى المبادئ والعدالة لإقامة مجتمع عادل، وعلى حماية الحقوق المتقابلة لتحقق حكومة خادمة عادلة، ولتكوين منظمة دولية تقوم على العدل والمساواة بين جميع الشعوب دون تفرقة، وتكون لها قوة قادرة على حماية الحقوق والعدالة، ومحاكم دولية عادلة تقوم على القسط والعدل، وعندئذ يسود الأمن العالمي عندما يسوده العدل المطلق.
والتجارب قاضية بيقين بأنه لا يوجد أمن أو نظام مثل الإسلام، الذي يقوم على المبادئ الثابتة مع التطور والتحديث في المتغيّرات.
هذا طلبنا، وتلك أمنيتنا، وذلك رجاؤنا.. أن يدرك العالم هذه الحقائق ليعود إلى رشده، تحقيقًا لوعد الله الحق: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكفِ بربك أنه علىٰ كلّ شيء شهيد} (فصلت:53).. صدق الله العظيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.