"عندما تقفُ على مآسي الآخرين وانكسارهم، إياك أن تبتسم.. تأدب في حضرة الجرح، كن إنسانًا أو مت وأنت تحاول".
لا أعلم من صاحب هذا الاقتباس أو أين وقعتُ عليه، إلّا أنني رأيت فيه أصدق تعبيرٍ عمّا نشهده في الآونة الأخيرة من عجز أمام الأخبار الّتي تلاحق أيّامنا وآمالنا.. وجدت فيه كلّ ما قد يجعل بعضًا منّا يغضّ البصر ويمضي في حياته، كما لو أنّ ما يحدث طبيعيّ، أو حلقة أخرى من برنامج نكتفي بالتعاطف مع "أبطاله" قبل المضيّ قدمًا في سيل الحياة الجارف والأنانيّ.
قامت قوّات الاحتلال بقصف مقرّ لليونيفيل (مركز الأمم المتّحدة) في قرية قانا جنوبي لبنان. ذلك الموقع، الذي هرب إليه المدنيون، وخاصّة النساء والأطفال، للاحتماء من القذائف العشوائية
كأفرادٍ ربّما نكون عاجزين حقًا عن القيام بتغيير فعليّ يذكر، خاصّة أن من يساند الاحتلال هم أباطرة العالم المعاصر، أي مستعمروه الأكثر خبثًا. لكنّنا، وإن استعصى علينا – لشتى الأسباب الواهية – امتلاك رقيّ الحداد الصامت، فإن لنا من جروحهم النصيب الأكبر، والمتمثّل ليس فقط بتشارك المعتدي، بل بتاريخ المشاهد الدموية وسير المعارك عينه.
فأي لبناني لا تستعيد ذاكرته ويلات مجزرتي قانا -الأولى تحديدًا- عندما يشاهد توحش الاحتلال في قصف "المواقع الآمنة" والملاجئ تحت راية الصمت الدولي؟
اندلعت هذه الفاجعة في أبريل/نيسان من العام 1996، عندما قامت قوّات الاحتلال بقصف مقرّ لليونيفيل (مركز الأمم المتّحدة) في قرية قانا جنوبي لبنان. ذلك الموقع، الذي هرب إليه المدنيون، وخاصّة النساء والأطفال؛ للاحتماء من القذائف العشوائية وعناقيد غضب المحتلّين المنهالة عليهم.
"كانت عشر دقائق قد هزّت العالم".. هكذا قيل! خلالها تحولت الحياة إلى شظايا من الألم والموت. أشلاء الأطفال المبعثرة في الأرجاء، الأمّهات المنكوبات، والجرحى المشوّهون، كانوا ما استهدفه ذلك الكيان المريض.. ناهيكم عن مئات الأبرياء الّذين لقوا حتفهم جرّاء ذلك، والذين بلغ عددهم 175 شهيدًا، إضافة إلى ما لا يقل عن 300 جريح.
قلّما وجدنا مصادر توثّق الاعتداء بالدّقة الّتي نشهدها اليوم، وقلّما كان ممكنًا تقفّي آثار الجاني بالوضوح الّذي نلاحقه به اليوم عبر شاشاتنا، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من أن يستمرّ في بطشه لعشرة أشهر على التوالي!
الهجوم على مركز الأمم المتحدة في قانا مثّل اختراقًا صارخًا للمواثيق الدولية، بما في ذلك اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تفرض حماية خاصة للمدنيين خلال النزاعات المسلحة. لم تكن المجزرة مجرد حدث عابر، بل كانت نقطة تحول في الصراع، وكان المجتمع الدولي يشاهد، والإدانات تتوالى من كل حدب وصوب.
وكما هو الحال في جميع النزاعات في المنطقة، "نددت" المنظمات الحقوقية الدولية بالعدوان، كما "استنكرت" الحكومات العربية ما حصل، أثناء توقيعها اتفاقيات السلام.. إلّا أن الردّ المقاوم قد أجبر جيش الاحتلال على الانسحاب.
لم تستمر مجزرة قانا كي تصبح إبادة جماعية كما هو واقع الحال في غزّة اليوم. في الحالة الأولى، هزّت المأساة بقايا من ضميرٍ عالمي أجبر المحتل على أن يعود أدراجه، ويعتكف عن التّمادي أكثر، ما أجده أمرًا غريبًا بحقّ.. فقلّما وجدنا مصادر توثّق الاعتداء بالدّقة الّتي نشهدها اليوم، وقلّما كان ممكنًا تقفّي آثار الجاني بالوضوح الّذي نلاحقه به اليوم عبر شاشاتنا، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من أن يستمرّ في بطشه لعشرة أشهر على التوالي! عشرة أشهر، لم تدفع الضمير العالمي للتزحزح عن فتوره، أو استرجاع فتات من إنسانيته الغارقة في سُبات، ليترك العدو مواصلًا نهجه الإجرامي المعروف، والّذي لم يكن آخر مظاهره استهداف مدرسة للأونروا في الخامس عشر من الشهر الجاري.
فما يحدث في غزة اليوم ما هو إلا استمرار لتلك الوحشية التي شهدتها قانا، فالاحتلال لم يغير أساليبه أو أعذاره، فمن حينها وهو يكرّر أنه "لم يعلم بوجود مدنيين"، متناسيًا أن 47% من سكان غزة هم أطفال دون الثامنة عشرة، أطفال كان لهم الحصّة الكبرى من الشهادة، بحسب التقارير الّتي تفيد بأن عدد الضحايا قد بلغ أكثر من تسعة وثلاثين ألفًا، بينهم العديد من الأطفال والنساء، وهي أكبر حصيلة شهدتها فلسطين منذ النكبة.
هذا المحتل يقتات على دماء الشعوب العربية، ولو استطاع نقل مشهد غزة إلى كلّ بلد عربي لفعل! لذا لا تكتفوا بالتأدب في حضرة الجرح في كلّ مرة تمرّ أمامكم مآسي غزة
فلسطين ولبنان يشتركان في تاريخ من المعاناة والاحتلال، ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر ولن يكونا.. هما حلم المستعمر نفسه مهما قرّرت بعض الجهات إقناع نفسها بالعكس. والجروح المفتوحة في كلا البلدين هي جروح العالم العربي بأسره، العالم الذي يؤثر الصمت في كلّ مرّة يسنح له التاريخ بفرصة فيبتعد فيها إلى جهته الخاطئة..
من هنا، نذكّر مرّة أخرى أن العالم لا يمكنه أن يستمر في التظاهر بعدم المعرفة أو اللامبالاة، الضحايا في غزة يستحقون أكثر من التعاطف العابر، هم بحاجة إلى موقف حازم ينهي معاناتهم ويفرض حماية دولية حقيقية، تحفظ لهم حقهم في الحياة بكرامة وأمان.. وكلما طال أمد هذا الصمت، زادت مسؤولياتنا جميعًا، وزاد التهديد بأن يطول العدوان سلام كلّ منّا في عقر داره.
ولا بدّ من نداء لن يكون الأخير.. هذا المحتل يقتات على دماء الشعوب العربية، ولو استطاع نقل مشهد غزة إلى كلّ بلد عربي لفعل! لذا لا تكتفوا بالتأدب في حضرة الجرح في كلّ مرة تمرّ أمامكم مآسي غزة، بل كونوا حاضرين للمواجهة، كونوا خير إخْوة في العروبة؛ أو موتوا وأنتم تحاولون..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.