شعار قسم مدونات

أنا المنشول أدناه!

عقاب الطفل بحبسه في المنزل ليس حلا جذريا لمشكلة السرقة
في لحظة كانت في جيبي وفي اللحظة التالية اختفت وانتقلت إلى أيديهما (وكالة الأنباء الألمانية)

‎وقفتُ مصدومًا وأنا أرى شابَين في مقتبل العمر يعبثان بمحفظتي.

في لحظة كانت في جيبي، وفي اللحظة التالية اختفت وانتقلت إلى أيديهما.

‎حدث كل ذلك بسرعة.

لقد تعرّضت للتوّ للسرقة. لأول مرة في حياتي. محفظتي وفيها عدة بطاقات ائتمانية باتت في يد "نشالَين"!

كل ذلك في وسط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وفي وضح النهار..

ربما كان يجب أن أصرخ، وأوبخهما بأقسى ما يحمله قاموسي المتواضع من الشتائم، لكنني لم أستطع.

كانا لصَّين لطيفَين..

بصحن صغير تعلوه علبة مناديل ورقية تكفل أحدهما بتقريبها من عيني، وتكفل الثاني بانتشال المحفظة من جيبي وسط زوبعة من الشد والرجاء بالمساعدة، كانت كفيلة بأن يتم الأمر بمهنية لصوصية عالية!

كانت تلك هي الساعة الأولى من اليوم الأول من الرحلة وللمرة الأولى منذ بدأت التخطيط لها، لم أكن متأكدًا مما إذا كان بإمكاني القيام بإتمامها..

رفضت في البداية استلامها منهما معتقدًا أن الكمين ليس سوى في بدايته، ثم تلقفتها جزعًا من هول المصاب متحققًا من مكوناتها المحدودة

بالنسبة لي، أصبحت أفريقيا فجأة خطرة، وكأن الجميع يتربّصون بي.

‎سرعان ما أدركت أنني محظوظ بكثير من أذكار الصباح ودعوات الطيبين، فقد أفلتّ بسهولة من الأسوأ.

كان من الممكن أن يُسرق مني هاتفي وفيه كل بيانات الرحلة وحجوزات الطيران والفنادق والدفع الإلكتروني..

كان من الممكن أن تسرق مني عملة صعبة أحملها في جيبي الآخر لتغطية، رحلة تمتد على مدى نحو أسبوع..

إعلان

لم تكن المحفظة هي السبب في صدمتي بقدر ما كانت الطريقة التي سُلبت بها!

مشاعر العجز هي التي هزّت نفسيتي. وجعلتني أبدو هشًا ضعيفًا.

لكنّهما مرة أخرى كانا لصين طيبين فقد لاحقاني لعشرات الأمتار، يرجوانني أن أستعيد محفظتي فما عندي ما يستعجلان به من أوراق نقدية.

رفضت في البداية استلامها منهما معتقدًا أن الكمين ليس سوى في بدايته، ثم تلقفتها جزعًا من هول المصاب متحققًا من مكوناتها المحدودة.

‎كانت الساعات التالية صعبة.

بدا الأمر وكأنني لن أستطيع، مهما حاولت، القيام ببرنامج الرحلة كما هو مخطط لها..

المشي لمسافات طويلة وسط الشوارع الماطرة المكتنزة بالناس والثقافات والعادات والتقاليد..

تناول طعام الشوارع على جانبي الطريق..

التحدث إلى البسطاء وركوب الحافلات العامة..

تصوير المشاهد المميزة للثقافة المحلية..

ماسحو الأحذية وبائعو الخضار والمتسولون ما ظهر منهم وما بطن، وقبل ذلك النشالون المتربصون بي في كل زاوية

كنت أنظر من حولي، خائفًا من التعرض للسرقة مرة أخرى، أحسب كل نظرة إليّ وكل صيحة علي..

‎تحدثت إلى موظف الفندق طلبًا لتعزيز المعنويات، لكن كل ما استطاع فعله هو أن يقول بلهجة إنجليزية ثقيلة " في المرة القادمة عليك أن تحذر" ولا تحمل أكثر من مائتي "بر" في كل جولة!

ماذا ستفعل المائتا "بر"؟

وجبة فَطور مكونة من البيض والشاي!

نصف وجبة غداء!

مشوار في التاكسي ذهابًا فقط ومثله للإياب!

وقفت في شرفة الفندق، المطلة على موقف الحافلات المزدحم، وبدأت تحوم حولي كل السلبيات..

الطرق المغمورة بمياه الأمطار، الأرصفة المتورمة بجذوع الأشجار الطافية على سطحها والحافلات والقطارات المزدحمة، والتلوث، والضوضاء..

ماسحو الأحذية وبائعو الخضار والمتسولون ما ظهر منهم وما بطن، وقبل ذلك النشالون المتربصون بي في كل زاوية.

قررت أنني أكره أديس أبابا ولن أستطيع الانتظار لعدة أيام لمغادرتها.

‎ماذا سأخبر الناس عن هذه البلاد؟ إنهم جميعًا سيّئون ولصوص؟!

إعلان

‎"بالطبع لن أفعل ذلك." مع أن هذا بالضبط ما أشعر به منذ الحادث.

غمرتني ثلة طيبة من الأصدقاء بساعات ثمينة من الأحاديث والخبرات عن أفريقيا والعالم العربي مرّت معها الأيام الأربعة كأنها ساعات

ماذا عن سوق ميركاتو الأكبر من نوعه في أفريقيا؟ هل يمكن أن أترك المدينة دون أن أمر عبر جنباته وأرصد ألوان الحياة فيه؟

إنك بذلك تكون قد ذهبت بقدميك إلى مسرح الجريمة ومعقل النشالين.. قال صديقي، ‎احتفظت بهذه المحادثة في ذهني، وأنا أخوض غمار سوق ميركاتو صباح اليوم التالي.

إنه أحد أكبر الأسواق المفتوحة في أفريقيا.

به مئات المتاجر التي تبيع كل شيء من الملابس إلى المجوهرات إلى القهوة واللحوم.

كما يشتهر بالطبع بكونه ملاذًا للنشالين والمحتالين.

‎بمحفظة فارغة في الجيب الأمامي ونحو مائتي بر في الجيوب الداخلية، مشيت في السوق.. لا تفارق يدي هاتفي المحمول، وعلى مدى ساعتين استكشفت السوق وعروضه العديدة. وتفاوضت على كوز من الذرة وقرطاس من الفول المحمص وشريحة من البطيخ والبابايا، ‎خرجت بعدها من السوق دون أن أتعرض للنشل، شعرت بثقة أكبر في نفسي.

في تلك الليلة زرت أحد المطاعم الشعبية وارتشفت الشاي من إحدى البسطات المنتشرة على الأرصفة، وأصبحت أكثر معرفة بالبيئة المحيطة بي، إلا أن الأهم أن أديس أبابا لم تعد تبدو خطيرة.

في اليوم التالي زاحمت الناس في القطارات المكتظة خلال أوقات الذروة، وتناولت فَطوري على قارعة الطريق تحت ظل سقيفة تقيني ماء المطر، وتسخو علي بالكثير من مظاهر الحياة في المدينة.

مرّ الوقت سريعًا واستطعت التكيف مع موجات الأمطار غير المتوقعة خلال النهار.. أتعايش معها حينًا وأتقي شرها بغرفة الفندق حينًا آخر..

غمرتني ثلة طيبة من الأصدقاء بساعات ثمينة من الأحاديث والخبرات عن أفريقيا والعالم العربي مرّت معها الأيام الأربعة كأنها ساعات..

في الطريق إلى المطار كانت التجربة توشك على نهايتها، وكانت عبارة أحد الأصدقاء تحاول التخفيف عني بشأن حادثة النشل: يؤسفني ما حدث معك خلال رحلتك

زرت ديوان الإمبراطور الباقي حتى اليوم بكامل هيبته رغم زوال الإمبراطورية، وتخيلت نفسي وافدًا على نجاشيها مع رهط من الصحابة الكرام نستقي من عدله ما فقدناه في قومنا..

إعلان

دخلت ديرًا على قارعة الطريق تعكس قسمات المصلين فيه نزعة مسيحية أصيلة تكاد تخرج من مشكاة واحدة مع ما جاء به ديننا الحنيف من معاني الخضوع للخالق، والتواضع مع الخلق.

رأيت من قرب كيف تبني الصين صيتًا لها متجذرًا في حدائق للصداقة وفي سيارات كهربائية فارهة تعيش جنبًا إلى جنب مع تاكسيات اللادا من مخلفات الحقبة السوفياتية.

تحدثت مع شباب مثقف لا تنقصه الدراية بأحداث العالم من حوله ويتطلع لاستقرار الأوضاع الاقتصادية في بلده لاستعادة عجلة السياحة والتنمية لتنال بلادهم ما تستحقه من موقع يليق بثاني أكبر تجمع سكاني في القارة الأفريقية.

في الطريق إلى المطار كانت التجربة توشك على نهايتها، وكانت عبارة أحد الأصدقاء تحاول التخفيف عني بشأن حادثة النشل: يؤسفني ما حدث معك خلال رحلتك..

‎في تلك اللحظة أدركت مدى تفاهة تلك الحادثة. لم يعد لها أية أهمية.. إنها نوع من التجارب التي نمرّ بها في حياتنا.

أدركت أنه باستثناء تلك الحادثة التي استغرقت عشر ثوانٍ، فقد غمرتني أديس أبابا بلطفها وناسها الطيبين وابتسامتهم الصادقة، لقد وقعت في حب المدينة والحب يأتي بعد النشل أحيانًا واسألوا متلازمة ستوكهولم!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان