تبدو هنالك مفارقة عجيبة في السيناريوهات السياسية في تونس، بين انتخابات معلنة في 6 أكتوبر/ تشرين الأول القادم في ظل تشظي الخارطة السياسية والحزبية، وضبابية الإطار الدستوري فيما بعد الانقلاب المدني الذي أطاح بالشرعية الدستورية في البلاد صيف سنة 2021، وأن تسير البلاد تحت دستور 2022 الجديد، الذي رسمته سلطة الأمر الواقع، وفرضه الرئيس قيس سعيد على المنافسين والحلفاء في آن واحد.
بيدَ أن الإعلان عن المحطة الانتخابية القادمة -انتخابات رئاسة الجمهورية التونسية- كان ضمن إلزامية الدستور القديم، وهو دستور 2014، دستور الثورة الذي ارتضته النخبة السياسية التونسية، وقبلته جميع القوى السياسية والفكرية، والتي قادت من خلاله الحياة السياسية.
منذ 25 يوليو/ تموز 2021 مرت سيول ومياه كثيرة من تحت جسور الحياة السياسية التونسية، سقطت فيها النخب السياسية في البلاد، والأحزاب الممثلة لها عادت إلى حجمها الطبيعي، حيث تبيّن أنها ليست إلا دكاكين سياسية صغيرة
- فكيف يمكن بالتالي في ظل هذه التناقضات أن نحكم على المشهد السياسي الحالي؟
هل نحن فعلًا أمام موعد انتخابي مجسد لعرس الديمقراطية، أم أن الصبغة الدستورية والقانونية لهذه المحطة الانتخابية الهامة تخفي ديكورًا سياسيًّا باهتًا، يبحث عن إضفاء شرعية لرئيس فاز بالانتخابات قبل بدايتها، أو حتى قبل إعلان نتائجها؟
ما الذي يجعل الرئيس التونسي الحالي كذلك؟ وهو الذي وصل إلى سدة الحكم بشرعية دستورية واضحة، وبديباجة رافضة للفساد السياسي، وإجماع من الشعب التونسي ضد منافس كان رمزًا لمقت التونسيين للفساد بكافة أشكاله، وأعني هنا الانتخابات الأخيرة الحرة، التي كانت قد نُظّمت سنة 2019، وتوجه فيها التونسيون إلى انتخاب رجل لم يُعرف عنه أي نضال أو نشاط سياسي غير المشاركة في تعديل دستور البلاد سنة 2002، حتى يبقى الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في سدة الحكم.
- ما الذي أوصلنا إلى هذا الانقلاب بعد تجربة فريدة لنموذج ديمقراطية فتية في عالم عربي يفتقد تقاليدها؟
لن نستطيع سرد كل هذه الأسباب في هذا المقال، ولن يشفع لنا قطعًا الرجوع إلى ماضي التجربة القصيرة لديمقراطية ما بعد الثورة التونسية.. هذا لن يكون مفيدًا، بدليل أنه منذ 25 يوليو/ تموز 2021 مرت سيول ومياه كثيرة من تحت جسور الحياة السياسية التونسية، سقطت فيها النخب السياسية في البلاد، والأحزاب الممثلة لها عادت إلى حجمها الطبيعي، حيث تبيّن أنها ليست إلا دكاكين سياسية صغيرة، عادت إلى تقوقعها الأيديولوجي والفكري، ولم ترتقِ في أدائها للدفاع عن تجربة الديمقراطية، وهي التي كانت أول المستفيدين منها .
كانت هذه الأحزاب في صراع سياسي، ولاهثة نحو شرعية حركية منافسة لخصم سياسي، وليس لبناء صرح ديمقراطي دستوري تحتاجه البلاد التونسية بعد الثورة.. بقي التماهي والمحاصصة الأيديولوجية تجاه حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي الديمقراطي المحافظ، ماءَ الحياة لأحزاب برلمان الثورة طيلة فترة 2019 إلى 2021 للأسف.
دخلت الديمقراطية التونسية في مرحلة التهريج، وإن كان ذلك مفتعلًا، دون السقوط في منطق المؤامرة، ولكن يبدو جليًا أن الفخ الذي نصب للنخبة السياسية التونسية كان محكمًا
تمادت فيها هذه الأخيرة في التشويش على مسيرة المخاض الديمقراطي العسير، الذي كان يحتاج إلى التثبيت في مؤسسات دستورية وسياسية، لسد ثغرة الفراغ الفقهي في قراءة دستور 2014، وتفعيل مضامينه وتقييم الممارسات من قبل من تولى الحكم منذ سنة 2014، والمعني هنا بالمؤسسات المحكمة الدستورية التي افتقدها صانع القرار السياسي التونسي في تلك الفترة، ومعه المشرّع التونسي كذلك.
لم تساهم كذلك جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية في استقرار مسيرة الديمقراطية التونسية، بل أظهرت الهشاشة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية العربية.. زادتها كذلك استقالة الأحزاب الفائزة في انتخابات 2019 من تحمّل مسؤولية فوزها النسبي، والذهاب إلى فرض حكومة برلمانية تتمتع بقدر نسبي من ثقة البرلمان والشعب، أي حكومة الحبيب الجملي، التي سقطت، أو أسقطها الرئيس قيس سعيد في قراءة متعسفة ومتجنية على دستور 2014.
ومنها دخلت الديمقراطية التونسية في مرحلة التهريج، وإن كان ذلك مفتعلًا، دون السقوط في منطق المؤامرة، ولكن يبدو جليًا أن الفخ الذي نصب للنخبة السياسية التونسية كان محكمًا.
جاء انقلاب الرئيس قيس سعيد مبعثرًا لكل الأوراق، ومقوضًا لما بنته النخبة السياسية التونسية بعد الثورة، أغلق فيه البرلمان بدبابة، وانتهى إلى وضع قيادات حزبية ورئيس البرلمان المنتخب في السجن، وعودة لمصادرة الرأي المخالف في إعادة لسيناريوهات سنوات الرصاص في تونس.. ويبدو واضحًا بعد ثلاث سنوات من هذا الانقلاب، أنه مشهد سريالي تونسي أرجعَنا إلى ما وراء الوراء.
محاذير التصفية الكاملة لهذه الحريات تبقى واردة في حال عزوف التونسيين عن حقهم في المشاركة الفعلية في الانتخابات الرئاسية القادمة بأعداد وفيرة، تعطي مؤشرًا للسلطة السياسية الحالية، أن استسلام الجسم المواطني والمدني والحقوقي التونسي ليس واردًا أن يختفي غدًا
أعود إلى سؤالي الأول في استقراء لمستقبل المشهد السياسي التونسي في الفترة القادمة، وأراه مرتبطًا بشكل الانتخابات القادمة، ومعيار الحرية والشفافية فيها، وهذا يعني أن الديمقراطية لا تنتعش إلا في مناخ سيادة القانون، وحيادية مؤسسات الدولة والإدارة.. كل هذه العناصر تبدو الآن غير متوفرة في المشهد السياسي الحالي في تونس.
التصفية الإدارية والسياسية التي تعرّض لها بعض المترشحين للانتخابات الرئاسية القادمة، واستمرار هذا الوضع، لا يمكن أن يفعِّل ملكة التغيير لدى التونسيين الذين ضاقوا ذرعًا من شعبوية الرئيس قيس سعيد، وهو مؤشر مهمّ في المشهد، ولكنه غير كافٍ لحلحلة الوضع الحالي.
يبدو كذلك في الساحة السياسية التونسية، وإن ضُربت فيها الأحزاب السياسية وأكبرها، أنه مع تعطش التونسيين للحرية بكافة صيغها المدنية والسياسية، لم يُغلق نهائيًّا باب مكتسبات الحريات في عشرية التحول الديمقراطي؛ ولكن محاذير التصفية الكاملة لهذه الحريات تبقى واردة في حال عزوف التونسيين عن حقهم في المشاركة الفعلية في الانتخابات الرئاسية القادمة بأعداد وفيرة، تعطي مؤشرًا للسلطة السياسية الحالية، أن استسلام الجسم المواطني والمدني والحقوقي التونسي ليس واردًا أن يختفي غدًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.