شعار قسم مدونات

النظام السياسي في عصر المعرفة بين فاعلية الأداء والعجز الوظيفي

الملابس والكراسي والشماسي.. تجارة على شواطئ الإسكندرية
منطقتنا العربية تزخر بمقومات سياحية متفرّدة، لكنَّها عاجزة عن وضع مخططات ناجعة للاستثمار السياحي (الجزيرة)

تمتلك دولنا العربية والإسلامية -التي يقع أغلبها ضمن نطاق ما يعرف بدول العالم الثالث- مقدرات اقتصادية ضخمة، وثروات طبيعية هائلة، تؤهلها لبلوغ مستويات متقدمة من التطور والحضارة، لكنها على خلاف ذلك تمامًا، فهي لا تملك اقتصادًا قويًا، وإنَّ مستوى دخل الفرد فيها هو الأضعف عالميًا، عدا بعض دول الخليج.

ورغم أنها تمتلك علماء وعباقرة في شتى الميادين، فإنَّ مستوى البحث العلمي فيها ضعيف جدًا، ومساهماتها العالمية في مجال الإبداع والابتكار هي الأضعف، وبالرغم من كونها دولًا غنية بطاقاتها الشبابية الخلاقة، فإنَّها عاجزة عن استثمارها وتحويلها إلى رأس مال بشري يساهم في تنمية بلده وتطوير اقتصاده.

رغم أنّها دول تزخر بمقومات سياحية متفرّدة، لكنَّها عاجزة عن وضع مخططات ناجعة للاستثمار السياحي الذي يسهم في إنعاش الدخل القومي، وتنويع مواردها الاقتصادية

كما أنّها دول تزخر بمقومات سياحية متفرّدة، لكنَّها عاجزة عن وضع مخططات ناجعة للاستثمار السياحي الذي يسهم في إنعاش الدخل القومي، وتنويع مواردها الاقتصادية، وبالرغم من أن لديها أطباء بارعين وباحثين صحيين مبدعين، ومستشفيات كثيرة، فإن خدماتها الطبية ضعيفة جدًا، ومستوى الرعاية الصحية فيها هو من بين الأضعف عالميًا.

وبالرغم من امتلاكها مؤسسات تعليمية وجامعات كثيرة، فإن مستوى التعليم فيها مُتَدَنٍّ، والأستاذ فيها لا يحظى بمكانته المرموقة، كما أن جامعاتها ليست مصنفة ضمن المعايير العالمية لجودة البحث وتنافسية التعليم.

إعلان

وبالرغم من كونها دولًا تمتلك وسائل إعلامية كثيرة وجرائد ومجلَّات وفيرة، فإن حرية الرأي والتفكير والنقد والتعبير فيها مُقيّدة محجورة ومحصورة، وأقلام النقد فيها قاصرة ومقصورة، ورغم أنها تتربع على أهم المضايق البحريَّة العالمية، وعلى مياهها وترابها تنشط الحركة التجارية العالمية، وفي باطنها تكتنز أهم ثروات المعمورة، فهي لا تؤثر قِيد أنملة في صناعة القرار السياسي العالمي، وليس لها أي دور يذكر في هندسة موازين القوى الدولية.

إنها دول تزخر بكل مقومات الازدهار، لكن واقعها يحكي التخلّف والانكسار.. فأين مكمن الخلل؟ وما الذي أقحم هذه الدول في دهاليز الرداءة؟ ولماذا تحولت كل هذه النعم إلى نقم على البلاد والعباد؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة الجوهرية، لا بد من فهم مقدمة أساسية، وهي أن التحولات الثورية التي شهدها عصر المعرفة وما نتج عنها من تطورٍ علمي، وحركيةٍ للفكر الإنساني، وعولمة اتصالية، فرضت على الدول والمجتمعات المعاصرة مسارات تجديدية، كان لها انعكاس بالغ في عدّة مجالات إستراتيجية وحيوية، كالاقتصاد والإدارة والاتصالات، والتنمية الاجتماعية وحقوق الإنسان، والتحول الرقمي والتعليم والبحث العلمي، والطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي.. إلخ، وقد شكّلت هذه التحديات ملامح العهد الجديد الذي يدفع بالأمم نحو حتمية الاندماج في المسار التطوري المتسارع لمجتمعات المعرفة.

تمثل الفاعليّة والتجديد أهم رافد لديمومة الأنظمة السياسية وقدرتها على التأقلم والاستجابة للمطالب الشعبية المتزايدة والمتنوعة في بيئة تشهد حركيةً وثَّابة، وتناميًا جامحًا للحاجات الإنسانية

وليست الأنظمة السياسية بمنأًى عن هذه التحولات، فهي تشكل المعادلة المحورية في عملية الانتقال الحضاري، فانتعاش بقية القطاعات مرهون بمدى تكَيّف الأنظمة السياسية مع تحديات العصر المعرفي ومسارات التحديث، أين أصبح التغيير حتمية وجودية ليس لبقاء الأنظمة السياسية فحسب، بل لفاعليتها وقدرتها على الاستجابة لتطلّعات الشعوب وتحديات القرن 21، فالأنظمة السياسية تنمو وتتطوّر كغيرها من الظواهر الإنسانية، وهي بحاجة دائمًا إلى التحديث والتنمية والإصلاح لتجديد بنيتها المؤسساتية وإنعاش أدائها الوظيفي.

إعلان

تمثل الفاعليّة والتجديد أهم رافد لديمومة الأنظمة السياسية وقدرتها على التأقلم والاستجابة للمطالب الشعبية المتزايدة والمتنوعة في بيئة تشهد حركيةً وثَّابة، وتناميًا جامحًا للحاجات الإنسانية، وإعادةَ تشكيل للمنتظم الدولي، ومن المعلوم لدى علماء السياسة والقانون الدستوري أن النظام السياسي الذي يتمتع بالشرعية المؤسساتية والشعبية والقدرة على تجديد أدواته الحكمية، سيكون أكثر كفاءة في الاستجابة لتحديات البيئة الداخلية والخارجية، والتكيّف مع متغيراتها، والانسجام مع تطلعات الشعوب وآفاقها المستقبلية.

أما النظام السياسي المتآكل بنيويًا؛ بسبب اهتراء وفساد قواعده التأسيسيّة، فلا يمكنه -على مستوى الأداء- أن يحقق جودة سياسية أو تداولًا حقيقيًا على السلطة أو تنافسًا نزيهًا، ولا استجابة لتطلّعات شعبه التي تفوق قدراته على التجاوب الفعال والسريع، لعدم كفاءة أدواته ورجالاته ومنظومته على التغيير، فضلًا عن الإبداع والتطوير.. وثَمة تكمن أدواء كثير من أنظمتنا العربية!

وبناء عليه فإن تحقيق مقومات الحكم الرشيد وتجسيد متطلبات الحوكمة بكافة أبعادها ومستوياتها، يعتبر أكثر من ضرورة في الوقت الراهن؛ الذي تماهت فيه الحدود الفكرية والنفسية بين المجتمعات الإنسانية، بفعل التفاعل الشبكي وسرعة النفاذ عبر وسائل الاتصال الحديثة؛ أين تحول العالم إلى أشبه بكتلة مندمجة، وأصبح من الصعب على الأنظمة التي لا تملك وسائل التمكين ومقومات الجودة والتنافس، أن تتكيف مع متطلبات العالم الرقمي، ولا مناصَ من تحقيق ذلك إلا بالاستثمار في الإمكانات البشرية والمعرفية، وترسيخ أسس الحكم الرشيد بكافة أبعاده؛ السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية.. إلخ.

وإن أوّل خطوات إصلاح أنظمة الحكم هي بناءُ الإنسان، وتشييد المعمار الفكري والأخلاقي لهذا المورد الفعّال في صناعة الحضارات والانتقالات المصيرية للشعوب، إذ لا بدّ من تركيز كافة الجهود نحو التربية والتعليم والتنشئة المعرفية والتربوية والحضارية للفرد، وصقل الشخصية المؤهلة للاضطلاع بمهمة البناء والتغيير الإيجابي. وفي ظل الأنظمة الاستبدادية والشمولية المعادية للعلم تقع المسؤولية على كل فرد من أفراد المجتمع في الإسهام بقدر المستطاع لبناء الوعي وإرساء معالم النضج والرشد السياسي.

إنّ إصلاح الأنظمة السياسية العربية بحاجة إلى انتهاج مسلك الإصلاح الذاتي والمرحلي، دون التعويل على التدخل الخارجي، وذلك بالعمل على توطين دعائم وقيم الحكم الرشيد

ومن شروط ذلك أيضًا توافر الوعي السياسي بأهمية تجذر ثقافة المراقبة والمحاسبة بين المواطنين والمسؤولين، وبناء معايير سليمة للجودة والتنافسية السياسية، والحرية الفكرية والإعلامية، وصولًا إلى "عقلنة السلطة" بالانتقال من التمركز حول الشخص إلى استقلالية الأداء المؤسساتي.

إعلان

هذه المقومات تمثل منطلقات تأسيسية لدولة القانون والكفاءة، التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا في ظل بيئة ثقافية وحقوقية وسياسية، تحترم الإنسان ومبادئ القانون وتحتكم لسلطان العلم والمعرفة، بالأخص مع تطور مستوى المجتمعات؛ أي أنَّه أصبح للمعرفة والتكنولوجيا دور بارز في ترقية ممارسات وطموحات الشعوب ومستوى تفكيرها، وهو ما يدفع بإلحاح نحو إعادة النظر في أساليب سياسة البشر وإدارة الدول الحديثة، وتأسيس نظام سياسي يمتلك الكفاءة والفاعلية في الاستجابة لتطلعات الأفراد والشعوب، ويتماشى باطّراد مع التحولات الراهنة.

إنّ إصلاح الأنظمة السياسية العربية بحاجة إلى انتهاج مسلك الإصلاح الذاتي والمرحلي، دون التعويل على التدخل الخارجي، وذلك بالعمل على توطين دعائم وقيم الحكم الرشيد، من خلال عملية انتقال سلس يضمنها نظام انتخابي نزيه وعدالة شاملة ومستقلّة، مع تفعيل دور المؤسسات الرقابية، واستقلال المجتمع المدني، وفاعليّة الأحزاب السياسية كقوة اقتراح ومراقبة ومحاسبة، وتكريس حرية الصحافة والإعلام في كشف الحقائق ونقد المسؤولين وتقويم سياساتهم، وصولًا إلى نزاهة ووضوح الحياة السياسية، ووضع أسس نظام سياسي يتمتع بالجودة السياسية، والفاعليّة الوظيفية، والكفاءة الإدارية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان