المسجد العمري الكبير.. مسجد السيد هاشم.. كنيسة القديس بروفيريوس.. حمام السمرة.. قصر الباشا.. مقبرة دير البلح.. مقام الخضر.. المدرسة الكاملية.. والقائمة طويلة.
أسماء أصابتها ضربات غادرة، ولكنها لن تُمحى من سجلات الحالة المدنية التاريخية لأرض غزة..
لم تتوقف قذائف العدوان، وحُمم ينفذها جيش الاحتلال، وقنابله المدمرة للبشر والحجر؛ وظلت الغارات على شراستها.. وهي تبيد الأرواح، وتمحو البنايات، وتسوّيها بالأرض.
لم يكن جزع العالم على المعالم الدينية، والآثار التاريخية ذات القيمة الحضارية العالمية، ليضاهي درجة الأسى والألم لفقد الآلاف من الأبرياء؛ فلا شيء يعدل فقدان الأرواح وإزهاقها يوميًا على مرأى العالم.
فلئن أبيدت الأبنية فإنها حتمًا مترسخة في خلايا الوعي وجينات الجيل، بفعل ترسبات التربية والشعور القوي بالرباط المتين الذي يشدها إلى جوهر يشكل هويتها ونسيجها الثقافي
لا أحد يشك في خطورة تدمير المساجد والكنائس، ولا مجال للتهوين من فداحة الجرم في حق الإرث الإنساني، ولو أن حماية البشر ووقف النزيف أولى وأهم. ولعلّ ما يخفف من تلك الفاجعة أن السكان يحملون تلك المعالم في داخلهم، ويستبطنون آثار حضارتهم المجيدة في ذواتهم وبين جوانحهم.
والدراسات التاريخية أكدت أن المهاجرين يحملون معهم أينما ارتحلوا صور مدائنهم وتصاميم آبائهم، ما يعني أنهم سيعودون – إن شاء الله – أينما ذهبوا.. فلا خوف على معالم الماضي ما دام في الشرايين نبض لا ينتهي، وفي ذاكرة الناس شواهد وخفقات انتساب واعتزاز بتلك الجوامع والأزقة، والحارات والأبراج والقلاع، والأديرة والمواقع.
فلئن أبيدت الأبنية من فوق الأرض فإنها حتمًا باقية في صدغيات الأوفياء، مترسخة في خلايا الوعي وجينات الجيل، بفعل ترسبات التربية والتنشئة، والشعور القوي بالرباط المتين الذي يشدها إلى جوهر يشكل هويتها ونسيجها الثقافي.
ففي حقب التاريخ قصص شعوب دمَّر الغزاة مستوطناتها، وأحرقوا معالمها ومدائنها، ولكن من تبقى منها حمل بذور التاريخ، واحتفظ بمعالم الشخصية الجمعية، وأعاد تشكيل ما دُمِّر من جديد في مواطن كانت في أعقاب الحروب والحملات العسكرية خرابًا وأطلالًا.
صمود أهل غزة يحكي استمرار جذوة الآباء، والاستمساك بالحق المشروع في الأرض والكرامة والحرية.. وقوافل الشهداء تؤكد ثقة أسطورية بالنصر المحقّق، وإن علا الثمن وارتفع حجم التضحيات.
وآثار الدمار المرعبة، التي شملت حوالي ثلاثة أرباع البنايات والمدن في القطاع، ومنها عشرات المساجد والكنائس والآثار التاريخية الفريدة، لا تعني بأي حال طمس معالم الهوية.. ولن ينجح الاحتلال في محو بصماتها العريقة للشعب الفلسطيني في غزة.
وكما يقابل المقاومون عدوان الاحتلال بالصمود والعمليات النوعية الموجعة، فإن ميكانيزمات الوعي والذاكرة الجمعية تحفظ في خلايا الفلسطينيين الأحياء عوامل تجديد حضاري، وآليات إعادة إنتاج الموروث، وصناعة تاريخ وآثار متجددة، تثبت القيم التي أُسس عليها البنيان الحضاري لشعب الجبارين.
كل الدلائل تؤكد أن الهوية ستنتصر على العدوان، وإصرار الفلسطينيين على مواصلة الصلاة على أطلال المساجد المدمرة أحد الشواهد على صمود الذاكرة
قبل نحو عقدين شاهدت في إسبانيا بعضًا من آثار المسلمين الباقية بعد محنة الأندلس، واستعدت صور المعالم والعادات، والإنتاج الثقافي المادي واللامادي، الذي صاغه الموريسكيون في زغوان وتستور، بعد تهجيرهم إلى تونس ومناطق من شمال أفريقيا.
واستذكرت ما دونت أستاذتنا في كلية العلوم الاجتماعية، تراكي زناد، منشئة نظرية ذاكرة المعيش والجسد، حيث يستبطن الناس ثقافة مجتمعهم ومعماره وعاداته، ويحملونها معهم أينما رحلوا، ويعيدون إنتاجها ثانية وثالثة، مهما بلغ عتوّ الصدمات وطول الرحلات ومسافات السفر.
في ثقافة أهل غزة وفلسطين أركان قوية، تؤكد استمرار الحياة وتواصل حقب التاريخ.. ليس أقلها استمرار الزيجات وإعلان البهجة في حفلات الزفاف، تحت القصف والهجمات العسكرية المتوحشة.
جوامع وكنائس ومعالم دمرت، ومعها العباد والزوار، فامتزج ركام الحجر بنزف البشر.. معالم كثيرة دمرت، ولكنها خلّفت أدلة كافية على أحقية الاستمرار.
كل الدلائل تؤكد أن الهوية ستنتصر على العدوان، وإصرار الفلسطينيين على مواصلة الصلاة على أطلال المساجد المدمرة أحد الشواهد على صمود الذاكرة، وانتصار الجذور، وحيوية البذور المتوثبة لإعادة التبرعم قريبًا، والإنبات والإزهار فور توقف الحرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.