شعار قسم مدونات

إقامة دولة فلسطينية تتطلب إرادة عربية

البلدة القديمة - قلب نابلس- فلسطين
الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة كغيرها من الحكومات ماضية في بسط سيطرتها على الضفة بعُنجهية (الجزيرة)

إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية، وإنهاء الاحتلال، وحق اللاجئين بالعودة والتعويض.. هذا هو السيناريو المتداول عربيًا منذ "حرب الأيام الستة"، أو ما يطلق عليها "النكسة"؛ التي تعني في الأدبيات السياسية العربية الهزيمة التي مُنيت بها الجيوش العربية لكلٍّ من مصر وسوريا والأردن والعراق أمام الجيش الإسرائيلي، في حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وعلى إثرها احتلت إسرائيل ثلاثة أضعاف ما احتلته في حرب عام 1948. بينما استطاعت كتائب عزالدين القسام والفصائل الفلسطينية داخل قطاع غزّة المُحاصر أن تضرب الجيش الإسرائيلي، الذي تضررت أسطورته الأزلية.

مقترح "مبادرة السّلام العربية"، الذي اعتمدته جامعة الدول العربية في قمّتها، التي عُقدت في بيروت عام 2002، بدّدها تصويت الكنيست الإسرائيلي يوم الأربعاء 17 يوليو/ تموز، بأغلبية ساحقة على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية

تبدّد الحلم العربي

يبدو أن إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967، وعودة اللاجئين عبر القنوات الدبلوماسية، وفق القرارات الشرعية الدولية، وبالذات القرار 194، وتطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، التي تؤكّد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، خاصّة القرار 2334، أصبحت صعبة المنال.

ومقترح "مبادرة السّلام العربية"، الذي اعتمدته جامعة الدول العربية في قمّتها، التي عُقدت في بيروت عام 2002، بدّدها تصويت الكنيست الإسرائيلي يوم الأربعاء 17 يوليو/ تموز، بأغلبية ساحقة على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية، وقصم ظهرها الرّدّ الأميركي الواهن، الذي عبّر عنه بوضوح الناطق الرسمي المناوب باسم وزارة الخارجية الأميركية "فيدانت باتيل" عقب التصويت على القرار، بقوله: "أعتقد أنه يمكن الإشارة ضمنيًا بأمان إلى أن التشريع الذي يتعارض مع حل الدولتين ليس شيئًا يشعرنا بسعادة غامرة"؛ ردًّا على سؤال مراسل صحيفة "القدس" الفلسطينية.

وصل عدد الأسرى إلى أكثر من 9,700 أسير، بينهم ما لا يقل عن 75 أسيرة، وأكثر من 250 طفلًا؛ تزامنًا مع استمرار المجازر اليومية للجيش الإسرائيلي في القطاع، وتصعيد الجيش والمستوطنين الاعتداءات والانتهاكات الانتقامية

تمخُّضات عن مبادرة الاستسلام

مبادرة السلام العربية، اعتبرها القادة السياسيون الإسرائيليون آنذاك تجاوزًا للخطوط الإسرائيلية الحمراء، فقد رفض المبادرة "أرييل شارون"، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق رفضًا قاطعًا، كما رفضها "شمعون بيريز"، نائبه حينذاك.

وما تمخّض عن سلسلة التنازلات العربية الدائمة، ومنذ مبادرة السلام، هو تطبيع كثير من الدول العربية مع الاحتلال، إضافة إلى ارتفاع عدد المستوطنين في الضفة الغربية بنسبة 15%، حيث تجاوز نصف مليون مستوطن حتى العام الماضي، حيث أقام الاحتلال عددًا قياسيًا من البؤر الاستيطانية، وخاصّة منذ بدء العدوان على غزّة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كما أن القدس الشرقية يعيش فيها أكثر من 200 ألف مستوطن.

يُضاف إلى ذلك ارتفاع أعداد الأسرى الفلسطينيين في غزّة والضفة إلى أرقام قياسية؛ فقد وصل عدد الأسرى إلى أكثر من 9,700 أسير، بينهم ما لا يقل عن 75 أسيرة، وأكثر من 250 طفلًا؛ تزامنًا مع استمرار المجازر اليومية للجيش الإسرائيلي في القطاع، وتصعيد الجيش والمستوطنين الاعتداءات والانتهاكات الانتقامية، عبر حصار خانق واعتقال دائم وقتل مُمنهج، ما أدّى إلى استشهاد 576 فلسطينيًا وإصابة نحو 5,350 في الضفة الغربية، وتدمير البنية التحتية الذي أتى في سياق المخططات الاستيطانية ومخططات التهجير، أثناء توجّه العالم نحو السماح للجيش الإسرائيلي بارتكاب الإبادة الجماعية في غزّة.

أعادت معركة طوفان الأقصى طرح القضية الفلسطينية بقوة، مع كُلّ ما حملته معها من أوجاع وآلام ومآسٍ، لكن أيضًا مع ما رافقها من مشاهد بطولية غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرير

إحياء القضية الفلسطينية

الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة، كغيرها من الحكومات المتعاقبة، ماضية في بسط سيطرتها على الضفة بعُنجهية الدولة، وتطرف قادتها أمثال وزير التراث الإسرائيلي "عميحاي إلياهو"، ووزير الأمن القومي "إيتمار بن غفير"، ووزير المالية "بتسلئيل سموتريتش"، يقودهم "بنيامين نتنياهو" من خلال إقرار قوانين تُمكّنهم من ذلك، ودعم أميركي غربي مُطلق، رغم بعض تغيّر لافت في المشهد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية، حيث أعلنت إسبانيا والنرويج وأيرلندا، وسلوفينيا وأرمينيا الاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية، ما يُعتبر خرقًا – ولو بسيطًا – في السّدّ الأوروبي الحائل دون حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم على أرضهم.

لقد أعادت معركة طوفان الأقصى طرح القضية الفلسطينية بقوة، مع كُلّ ما حملته معها من أوجاع وآلام ومآسٍ، لكن أيضًا مع ما رافقها من مشاهد بطولية غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرير.

القضية الفلسطينية تناقلتها الأروقة السياسية الدولية، وغزت الشوارع العالمية بعدما نسيها جيل كامل، وكاد بعضهم أن يُسلّم بحكم الأمر الواقع؛ مُمثّلًا بالتنافس على التطبيع مع إسرائيل والتعاون الأمني والعسكري مُقابل الازدهار الاقتصادي المزعوم، ومحاولات إخفاء الهوية الفلسطينية، وتهويد القدس بطرق استفزازية مقيتة، آخرها اقتحام "بن غفير" المسجد الأقصى.

بعد أن عاش قادة الاحتلال ليومين فقط نشوة إحساسهم بالانتصار، بعد التصويت ضد إقامة دولة فلسطينية، أتاهم قرار محكمة الأمن الدولية كالصاعقة بإنهاء الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، وإذا بالصخب الإسرائيلي إثر الشعور بالنصر يتحوّل إلى صُراخ من حجم الإحساس بوقع الهزيمة

إجماع إسرائيلي ضد الوجود الفلسطيني

تصويت الكنيست بأغلبية ساحقة على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية، أتى ليعكس حالة الإجماع داخل التيارات والمعسكرات القومية والدينية الإسرائيلية الرافضة لأي تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني.

يأتي قرار التصويت في الكنيست تزامنًا مع شنّ الجيش الإسرائيلي غارات جوية وهجمات بالدبابات، وارتكابه مجازر يومية بتسليحٍ أميركي من العيار الثقيل؛ خلّف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين أكثر من 128 ألفًا، جُلّهم أطفال ونساء وعُزّل، وممارسته القتل بالتجويع، أو هدم مقومات الحياة من بنية تحتية، وانعدام الماء الصالح للشرب وقطع الكهرباء، وقصف المستشفيات واستهداف الأطباء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود وسط الدمار الهائل الذي يُشبه مخلّفات الحرب العالمية الثانية في المدن الألمانية مثل "فورتسهايم" أو "دريسدن".

ولكن، بعد أن عاش قادة الاحتلال ليومين فقط نشوة إحساسهم بالانتصار، بعد التصويت ضد إقامة دولة فلسطينية، أتاهم قرار محكمة الأمن الدولية كالصاعقة بإنهاء الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، وإذا بالصخب الإسرائيلي إثر الشعور بالنصر يتحوّل إلى صُراخ من حجم الإحساس بوقع الهزيمة، فتنقلب الآية لتُقرّ محكمة العدل الدولية يوم الجمعة 19 يوليو/ تموز الحالي: "إن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات غير قانوني، وتتحمل إسرائيل في المسألة الالتزام، بما في ذلك دفع تعويضات عن الأضرار وإخلاء جميع المستوطنين من المستوطنات القائمة… وإن سياسات إسرائيل الاستيطانية واستغلالها للموارد الطبيعية في الأراضي الفلسطينية، تُمثّل انتهاكًا للقانون الدولي".

وطالبت المحكمة إسرائيل بوضع حدّ لاحتلال الأراضي الفلسطينية المحتلّة بعد عام 1967، داعية إلى إنهاء أي تدابير تُسبب تغييرًا ديمغرافيًا أو جغرافيًا، في خطوة قضائية غير مسبوقة. كما دعت المحكمة من "لاهاي" المجتمع الدولي للتعاون من أجل تطبيق ذلك، والامتناع عن تقديم أي دعم لإسرائيل كقوة احتلال.

مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أصدر عدة قرارات تُطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، إلّا أن هذه القرارات تبقى مع "وقف التنفيذ"

حلّ الدولتين وهمٌ سوّقته إسرائيل

وبالعودة إلى قرار الكنيست؛ فهو التعبير الصريح الفجّ لنهج إسرائيل الحقيقي في سياستها التوسعية الاستيطانية، والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية، والذي بدا بجلاء منذ أن تسلّمت حكومة المتطرفين الحالية الحكم، وهو التطبيق الفعلي لسياسة الدولة الواحدة والتطهير العرقي، والعمل على التهجير القسري والطوعي لضمّ المستوطنات وغور الأردن والقدس الشرقية؛ الأمر الذي يُصرّح به ساسة الاحتلال صباح مساء.

حتى إنّ الحديث حول الأوهام التي سوّقتها إسرائيل للأنظمة العربية، وبشراكة أميركية، منذ "أوسلو" وحتى الآن بجعل الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزّة دولة فلسطينية عبر القنوات الدبلوماسية والحلول السياسية، أصبح مع قرار الكنيست على أرض الواقع أمرًا مُستحيلًا، فضلًا عن مُعارضة التوجّه الإسرائيلي الحالي ربط الضفة الغربية بغزّة، وعدم شراكتها بأي اتفاق يُبرم من أجل القطاع.

في النهاية، ليس لإسرائيل الحق في منع إقامة دولة فلسطينية على أرضها وعاصمتها القدس الشرقية المُحتلّة، حيث يُعتبر حق تقرير المصير للشعوب من المبادئ الأساسية في القانون الدولي، وهذا الحق يُعترف به لكُلّ الشعوب، بمن في ذلك الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال والقتل والتنكيل والإبادة منذ 76 عامًا.

يعاني المجتمع الدولي حالةَ ضعف تجاه القرارات الإسرائيلية، وأحيانًا تواطؤًا ودعمًا صريحًا. مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على سبيل المثال، أصدر عدة قرارات تُطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، إلّا أن هذه القرارات تبقى مع "وقف التنفيذ"؛ بسبب تواطؤ أميركا والمعسكر الغربي، ومحدودية التوازنات السياسية والضغوط الدولية.

هذا الضعف الدولي أدّى إلى استمرار التفرّد الإسرائيلي بالفلسطيني.. وحرب الإبادة غير المنتهية الآن في غزّة مثال حي وشاهد على كُلّ الأنظمة العالمية، والعربية والإسلامية على وجه التحديد، وخاصّة دول الجوار، إضافة إلى حالة الجمود في عملية التدخّل الدولي رغم القرارات الأممية والإدانات العالمية.

الرهان الرابح هو الرهان الذي يعتمد حصرًا على وعي الشعوب

باختصار

لتحقيق سلام عادل ودائم في فلسطين، وفي الشرق الأوسط كُلّه، يجب العمل على تنفيذ القرارات الدولية الداعية لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، وبدون ذلك يزداد الانفراد الإسرائيليّ بالفلسطيني، ويتعاظم توحّشه وتعطّشه لدمه وأرضه دون رادع؛ ما يؤثّر سلبًا، ليس على حياة الفلسطينيين فحسب، بل على مستقبل المنطقة برُمتها، وعلى رأسها إسرائيل، التي بدأت تهدم كيانها بيد غلاتها المُحترقين.

الرهان الرابح هو الرهان الذي يعتمد حصرًا على وعي الشعوب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان