سقى الله تلك الأيام التي كنّا نسافر أثناءها من مطار بيروت أو دمشق أو اللاذقية إلى مطار القاهرة، دون تأشيرات وإجراءات وموافقات ومراسلات، لنكون بعد ما يزيد قليلًا عن ساعة طيران في المحروسة، ولتستغرق رحلة التاكسي من المطار إلى الفندق من الزمن أكثر أحيانًا مما استغرقته الطائرة، برحلتها السريعة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء.
ولأن الوقت كان ما يزال مبكرًا في مدينة لا يعرف النوم طريقه إليها، فسرعان ما كنت أنهي إجراءات التسجيل بالفندق، مسرعًا نحو منطقتين كانتا دائمًا في برنامج اليوم الأول لكل زيارة من زيارات المحروسة؛ أولاهما منطقة ميدان طلعت حرب وما حوله، وصولًا إلى ميدان التحرير، تلك المنطقة المعروفة بالقاهرة الخديوية أو وسط البلد، حسب ما هو متعارف عليه، متأملًا آثار الزمن وتوالي الأيام والإهمال على المباني والميادين والقصور والتماثيل، التي تشكل قلب المدينة التي أقيمت على الطراز الأوروبي متأثرة بباريس، بل إن بعض المهندسين الذين شاركوا بتطوير عاصمة النور، تم الاستعانة بهم في تخطيط وبناء تلك المنطقة.
سيأتي لك النادل بالإبريق الخزفي الأبيض المليء بالشاي، مع عِرق من النعناع والكؤوس ذات اللون الأزرق، نسأله عن طاولة نجيب محفوظ، فيجيبنا بلامبالاة لكثرة ما وُجّه إليه ذلك السؤال: إنها في تلك الغرفة المغلقة
ولا تكتمل الجولة تلك إلا بزيارة مكتبة مدبولي، ومكتبة دار الشروق قبالتها، بحثًا عن كتب لا يمكن العثور عليها إلا في القاهرة، ثم لا بد بعدها من استراحة في مقهى ريش، أو تناول قطعة حلوى في محل "جروبي" الشهير، نستعيد معها أجواء ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين في تلك المدينة.
أما الوجهة الثانية فتكون نحو ما يعرف بالقاهرة الفاطمية، وللسهولة نطلب من سائق التاكسي أن يوصلنا إلى ميدان الحسين، ولأننا في الحسين لا بد أن تبدأ جولتنا عبر طريق خان الخليلي بين زحام المارة والسياح، ولا بد أن نستجيب لدعوات العاملين في قهوة الفيشاوي وهم ينادونك: "اتفضل يا بيه.. شرفنا يا باشا"، وليس لك إلا أن تستجيب لإغراء الجلوس على طاولة صغيرة مسندة إلى الجدار الحجري في الطريق، لأنه من الصعب أن تجد طاولة في الغرف الصغيرة التي يتألف منها ذاك المقهى.
ودون أن يسألك، سيأتي لك النادل بالإبريق الخزفي الأبيض المليء بالشاي، مع عِرق من النعناع والكؤوس ذات اللون الأزرق، نسأله عن طاولة نجيب محفوظ، فيجيبنا بلامبالاة لكثرة ما وُجّه إليه ذلك السؤال: إنها في تلك الغرفة المغلقة، والتي لا تفتح إلا في المناسبات، ولبعض الضيوف المهمين؛ نقول له مع إيماءة ذات معنى: إنك من المؤكد تستطيع أن ترتب لنا الدخول إلى تلك الغرفة، يجيب: حنشوف يا بيه.
مع إشارة لم تتأخر نسير وراء صديقنا لندخل الغرفة من باب يفتح على زقاق جانبي ضيق.. "هي دي تربيزة الأستاذ نجيب محفوظ يا بيه".. يقول صاحبنا، نقف متأملين الطاولة المستديرة الصغيرة، التي لا تختلف كثيرًا عن باقي طاولات المقهى، ربما على هذه الطاولة الصغيرة صاغ كاتبنا شخصية "سي السيد" في الثلاثية، وحلل تعقيدات نفسية سعيد مهران في "اللص والكلاب"، ونسج تفاصيل شخصيات "ميرامار"، و"السمان والخريف"، و"خان الخليلي"، و"القاهرة ثلاثين".
ما زلنا بانتظار رحلة قادمة لعاصمة "أم الدنيا"، تسمح بها الأيام بعيدًا عن الموافقات والإجراءات، لنلبّي طلب صاحب تلك الأغنية بزيارتين للسيدة وللحسين في يوم واحد
وعلى الطاولة ذاتها ربما تعالت أصوات الضحكات و(القفشات) أثناء جلسة الحرافيش الأسبوعية، أو استقبل الأستاذ محاوريه من الصحفيين والأدباء والمراسلين، الذين ازداد عددهم بعد حصول الأستاذ على جائزة نوبل، دون أن يغير فوزه بتلك الجائزة شيئًا من عاداته اليومية، ومواعيد قدومه إلى المقهى، حتى يقال إنك تستطيع أن تضبط ساعتك وفقًا لمواعيد الأستاذ في القدوم والمغادرة.
وقوفًا ننهي كوب الشاي بالنعناع، فالجلوس ممنوع حسب تعليمات صاحبنا، ووسط عبارة "مالهاش لزوم يابيه" يتسلم صاحبنا "إكراميته".. نخرج إلى الزقاق عائدين نحو ميدان الحسين، وصوت عبد المطلب يطل من جهاز التسجيل في مقهى الفيشاوي: "ساكن بحي السيدة وحبيبي ساكن بالحسين، وعشان أنول كل الرضا يوماتي أروح لو مرتين، من السيدة لسيدنا الحسين". وكان علينا تنفيذًا لرغبة صاحب الأغنية أن نعود مرة ثانية، ولكن ليس في اليوم ذاته، بل في يوم آخر.
وما زلنا بانتظار رحلة قادمة لعاصمة "أم الدنيا"، تسمح بها الأيام بعيدًا عن الموافقات والإجراءات، لنلبّي طلب صاحب تلك الأغنية بزيارتين للسيدة وللحسين في يوم واحد، أو لنحظى مرة أخرى بفنجان شاي مع النعناع على طاولة الأستاذ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.