لم أعهد عليه طوال خمسة عشر عامًا إلا التزامًا بمواعيده، وقد لا يكون تأخر سوى مرة أو مرتين على الأكثر، وكان فيهما يمطرني بسيل من المكالمات المُعتذرة والمُبرِّرة.. "حادثة في الطريق".. " ازدحام مروري خانق".. " أنا على وشك الوصول".. إلا هذه المرة التي نفد صبري فيها من طول غيابه بعد عمل لأكثر من نصف يوم، زاد عليه ساعتين إضافيتين لتأخره؛ ما جعلني أستشيط غيظًا؛ وزاد الطين بلة عدم إجابته عن هاتفه الذي كان مشغولًا دائمًا.. وهذا جعلني ممتعضًا وساخطًا.
سمعت تلك الكلمات، وخالطني شعور امتزج فيه الخوف بالترقب معًا، ولا أدري لماذا تذكرت عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" عندما قال: "أنا بخاف من الكلب يطلع لي أسد"
ولكن كل هذا الغضب ذهب أدراج الرياح، وكبحت جماح نفسي بشدة، عندما رأيت وجهه الممتقع الشاحب وكأنه متردٍّ من ارتفاع شاهق، أو أخرجوه من بئر عميقة سحيقة.. وبعدما أتيت له بكوب من الماء البارد، هدأ قليلًا ثم بدأ يقص عليَّ سبب تأخره قائلًا:
كنت أعبر "الكمين" بتُؤَدة، وحرص على سيارتي من المطبات الصناعية العالية، فقِطَع الغيار والذهاب إلى الميكانيكي اليوم يحتاجان إلى قرض بنكي! وعلى غير العادة استوقفني بوجهه المتجهم، فرفع يده وأشار بكفه ضامًّا إبهامه إليه.. فهمت من إشارته تلك أنه يريد الرُّخص، فلما رآها جن جنونه، وأحضر الضابط المسؤول على عجل وكأنهما أمسكا بصيد ثمين، كان رد فعلهما مبالَغًا فيه، لدرجة أنه يدور في ذهنك أن هذا الجالس في السيارة أمامهما إما أن يكون سفاحًا هاربًا من عشرة أحكام بالإعدام، أو زعيم مافيا متمرسًا.
قلّب الضابط الرخص يمنة ويسرة، ثم رمقني بنظرة متفحصة، لم يتكلم، وكانت هذه أصعب اللحظات على نفسي، جال في خاطري أني قد عبرت محطة تحصيل الرسوم على الطريق، فدفعت دون أن آخذ إيصالًا، فماذا لو سألني عن الإيصال؟! ولعلها تكون رخصة القيادة التي تُجدَّد كل عشر سنوات، وأنا لم أراجع تاريخها منذ فترة، أو أنه ذلك الشرخ الصغير في زجاج السيارة الأمامي، أو.. أو.. قاطع ذلك كله قائلًا بلهجة حازمة، وآمرة في الآن نفسه: انزل يا دكتور!.
سمعت تلك الكلمات، وخالطني شعور امتزج فيه الخوف بالترقب معًا، ولا أدري لماذا تذكرت عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" عندما قال: "أنا بخاف من الكلب يطلع لي أسد".. فتحت باب السيارة وأنا أشعر في قدمي بالخدر، يدي ترتجف، ونبضات قلبي تتسارع، ووجهي يتعرّق بشدة.. رآني أتباطأ في نزولي، فاستحثني بحدة: "هتنزل طوال اليوم؟"؛ واستفهم مستنكرًا وساخرًا: "استشاري تحاليل طبية؟". فأجبت بتلقائية متعجبًا: نعم!
أجاب وهو يهز رأسه: قد هاتفت زوجتي وهي التي أخبرتني، أنت تعرف أني ليس لي علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد
فالتفت إلى صاحبه وأومأ إليه برأسه انتصارًا كأني اعترفت بالجرم المشهود، أو أني أنا الذي أحرقت أصحاب الأخدود، واستطرد متسائلًا: "تشتغل في معمل ألفا فرع فيصل؟!"؛ فقلت لا: المركز الطبي.. قليوب.
فقال لي بعد أن بدت خيبة الأمل على وجهه: خذ رخصك وتوكل على الله.
كان يحكي وأنا بشق الأنفس أمسك نفسي، حتى انفجرت من الضحك أخيرًا، وقلت: طبعًا أنت لا تعرف قصة شاشة معمل ألفا؟
أجاب وهو يهز رأسه: قد هاتفت زوجتي وهي التي أخبرتني، أنت تعرف أني ليس لي علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، أصبُّ كل اهتماماتي بمتابعة الأبحاث الطبية المتعلقة بالجديد في الطب، وأنا مشجع كروي بامتياز؛ أشجع الأهلي والمنتخب، وصلاح مع ليفربول أحيانًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.