تعدُّ المؤسسة المالية من أهم مؤسسات الدولة وركائزها، فهي تضمن بقاءها وتطورها، وتدل على قوتها وعظمتها، وقد أولاها الإسلام اهتمامًا بالغًا، انطلاقًا من حفاظه على الكيان المالي والاقتصادي للدولة، ولـِما تشكله من دعامة أساسية من دعامات الدولة، ومنها تنطلق الرعاية العامة لشؤون الناس ومصالحهم.
كان المسؤول عن تلك المؤسّسة في دولة المماليك ناظر الدولة، ووظيفته مستحدثة، أحدثها عام 706هـ الناصر محمد بن قلاوون (تـ741هـ)، ولأجل إحداثها تراجع عمل الوزير في الدولة، وصار عمله مقسَّمًا إلى أربع وظائف، منها وظيفة ناظر الدولة، ولأن هذا الأخير كان المسؤول عن الأمور المالية في الدولة؛ أي عن ديوان النظر- وهو أرفع دواوين المال، وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع عنه- عظُم أمره كثيرًا، وتلاشى بجانبه عمل الوزير ومنصب الوزارة، وكانت الدواوين المالية المتفرعة عن ديوان النظر في الدولة، تسعة دواوين.
من المحاولات ما قام به الناصر ابن قلاوون عام 715هـ، من روك الأرض (قياس الأرض بالفدان وتثمينها)، وهي العملية المعروفة بـ "الروك الناصري"، وكان من أهم أسباب ذلك بيان مقدار الخراج الذي يصل إلى خزانة الدولة
ولـمَّا نخر الفساد دولة المماليك بسلاطينها وأمرائها، وصارت الوظائف فيها لا تُنال إلا بالرشاوى، لم تكن وظيفة ناظر الدولة بمنأى عن ذلك، فتولاها كثيرون بالرشوة، بل لقد تولاها من لم يكن يحسن الكتابة والحساب. قال ابن تغري (تـ 874هـ) إنّ توليته كانت "عارًا كبيرًا على ملوك مصر إلى يوم القيامة، وعلى من ولَّاه حجج لا يقوم أحد بجوابها، وليس لأحد في ولايته عذر مقبول"، ونظرًا لفساد أكثر أولئك النُّظار؛ فقد كان مصيرهم في الغالب مصادرة أموالهم، وسوء العاقبة قتلًا أو نحوه.
وقد بلغ فساد المؤسسة المالية درجةً عجزت فيها الدولة عن أداء ما يلزمها من نفقات، بل لقد خَلَتْ خزانتها من المال؛ فانعكس ذلك سلبًا على أوضاع الناس المعيشية، الشيء الذي حمل عددًا من السلاطين والعلماء على محاولة إصلاح ذلك الفساد، أو تقديم رؤًى إصلاحية له، سواء على مستوى الدولة عامةً، أم على مستوى المؤسسة المالية وأفرادها خاصة.
وكان من تلك المحاولات ما قام به الناصر ابن قلاوون عام 715هـ، من روك الأرض (قياس الأرض بالفدان وتثمينها)، وهي العملية المعروفة بـ "الروك الناصري"، وكان من أهم أسباب ذلك بيان مقدار الخراج الذي يصل إلى خزانة الدولة، والحد من فساد بعض الأمراء الذين عظمت إقطاعاتهم، بل واعتدى بعضهم على مخصصات الجند الماليّة، وذلك بإشارة من الناصر لتوفير المال للدولة، وسدّ التزاماتها، وإصلاح عجزها الماليّ.
ولكن تلك العملية لم تُؤتِ كلَّ أُكُلِها، وظلت الدولة تعاني فسادًا وعجزًا في التزاماتها المالية، يدلّ على ذلك طلبُ الناصر عام 724هـ أن تُرفع إليه كلَّ يوم أوراقٌ بواردات الدولة وصادراتها؛ لمعرفة أسباب ذلك العجز المالي الذي تعاني منه الدولة، ثم كرر الناصر مثل ذلك الأمر عام 739هـ.
ألّف المقريزي كتابه "شذور العقود في ذكر النقود"، ضمَّنه الحديث عن أسباب اضطراب الأمور المالية في الدولة، وكيفية علاجها، وقد قُدّم الكثير من الرؤى والمحاولات الإصلاحية وغيرها
وتكرر الأمر بعده عام 741هـ في ولاية ابنه الحسن (تـ762هـ)، حيث "وقع الاتفاق على تخفيف الكلف السلطانية، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق بما على الدولة من الكلف"، وذلك لمعالجة عجز ميزانية الدولة أيضًا.
وفي عام 745هـ كُتبت للسلطان الصالح إسماعيل (تـ746هـ): "أوراق بكُلَف الدولة ومتحصلها، فكانت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم في السنة، والمتحصل خمسة عشر ألف ألف درهم"؛ ما يدل على أن السياسات التي اتخذت للحد من الفساد المالي لم تنجح، وظلَّ الفساد مستمرًا بعد ذلك في مراحل الدولة التالية، يُطلعنا على جانب منه ما كَلّفَ به السلطان المؤيد شيخ المحمودي (تـ824هـ) الإمامَ المقريزي (تـ845هـ)، بكتابة رسالة في الإصلاح الاقتصادي بوجه عام، والإصلاح النقدي بوجه خاص.
فقد ألّف المقريزي كتابه "شذور العقود في ذكر النقود"، ضمَّنه الحديث عن أسباب اضطراب الأمور المالية في الدولة، وكيفية علاجها، وقد قُدّم الكثير من الرؤى والمحاولات الإصلاحية وغيرها، الحال الذي يشي بعظيم الفساد الذي نخر المؤسّسة المالية في دولة المماليك، وسوَّغ تقديم تلك الرؤى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

