إن واقع المرأة في غزة هو قاموس تعجز الكلمات عن أن تعطيه ولو شيئًا يسيرًا من حقه، أو وصفه! فحين يجتمع الصمود والقهر وشتى العراقيل الممكنة، لخلق أقل ما يمكن وصفه بأنه خارقٌ، وما هو بخارق؛ فإنما أنت بإزاء امرأةٍ باتت مدركة أنها قد خلقت لأجل أن تكافح، وتناضل حتى تغدو بلادها حرة أبدية الملكية لها.
غزة العزة.. حروف قليلة، تجد بين ثناياها كمًّا لا متناهيًا من المعاني والدلالات.. الصمود، القهر، الجحيم، الجنة، كلٌّ يعي من الحروف حسب ما جاراه من أحداث. وتجد المرأة الصامدة تعي دلالة واحدة وهي الموت في سبيل أرضها الطاهرة، أو الموت في سبيل حماية أشلاء أبنائها المتناثرة.
وإن أَجَلْتَ بنظرك إلى يسارك وجدت امرأةً طاعنةً بالسن تشوهت يداها من الحروق، من مجاهدات عديدة لصنع ما يمكنها من خلاله سد جوع عائلتها التي تحيط بها..
أود الترحيب بك في أراضي غزة، لا بد أن وجهتنا الأولى بين الأسلاك الشائكة المقطعة قد شدّت صحوك، ولكن تجلّد يا عزيزي، فما أنت مجاريه قريبًا من شأنه أن يشد كل خلية حية في دماغك؛ حتى إقناعك بأن ما تراه حقيقةٌ، وليس من وحي هلوساتك وأوهامك. نعم، أنت بمحاذاة نساء غزة، على يمينك تلمح بنظرك أُمًّا تنام جاثيةً بين قبور أبنائها الرملية، فقد أُحبطت محاولاتها لدفنهم بشكل جديرٍ بهم، وهي بمجرد أن انتهت من لملمة نثائر الابن الأول، وجدت أنها تجددت بنثائر ابنها الآخر.
وإن أَجَلْتَ بنظرك إلى يسارك وجدت امرأةً طاعنةً بالسن تشوهت يداها من الحروق، من مجاهدات عديدة لصنع ما يمكنها من خلاله سد جوع عائلتها التي تحيط بها.. نعم يا عزيزي، هنا في غزة، ترى مختلف البيوت فارغةً إثر تكاثف أفرادها في منزل واحد، فإن حان المصير حان لهم جميعًا، كي لا يذوقوا كرب الفراق، من صغيرهم لكبيرهم، وجميعهم يستقصي حضن أمه كي لا يجزع وأمه تمد يدها لتصد جزعه.
مازالت رحلتنا متوالية، انظر أمامك ولا تجزع.. ودعني أفسر لك ما يجري، لا تغمض عينيك فهذا ليس بمثابة فيلم رعب، وإن كان ذلك أقل ما يمكن وصفه به.
شابة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تجثو على ركبتيها اللتين تكادان تتمزقان من ضغط جسمها على الأرض الصلبة، فقد خسرت جنينها الذي لم يسعه أن يكمل طوره في أحشائها.. وإن ظننت أن ما رأيته قد كفاك فصبرًا، فهذه الأم لم يعد لها وجود، فأشلاؤها قد لحقت بابنها من قبل أن تستطيع دفعه نحو عالمها المأسور.
أزل يديك عن أذنيك واصغِ جيدًا، فهذا الصوت الذي لم تسطع أذناك أن تجارياه قد بات نغمة صحو ونوم أهل غزة.. وارفع نظرك واتجه به نحو الأمام، وسر وتأمل المشهدَ الملحمي، نيرانًا تلتهم كل ما ينبض وما لا ينبض
أنا على علمٍ بأن السير في شوارع هذه البلاد بعد أن تم تشويهها متعب لقدميك، ولكن هل يسعني أن أقول لك غير كلمة: "تحمّل"؟. ربما سمعتها أذناك مليون مرةٍ حتى لحظتنا هذه؛ فنحن لا نسير وحدنا، بل وسط جيش من النساء اللاتي يجررن خلفهن أبناءهن، تخطو إحداهنّ خطاها، ولسانها يكاد يلتوي من تكرار كلمة: "تحمّل يا ولدي"، ليتني أجد لك حذاءً أُنجي به قدميك الطاهرتين، وأريد أن أُنجي جسدك كله، اصطبر فسأحملك نحو الحرية، وإن كلفني ذلك الخطوَ نحو عالمٍ آخر.
قد اقتربت جولتنا من النهاية، وبالرغم من عدم وجود مرسًى نحطّ به، فإننا بتنا الآن فيما يسمى الجحيم الطاهر على الأرض.. هذا السرب الأبيض الذي أمامك ليس بنور آخر النفق، هذه خيام نازحي غزة، ولا يسعنا حتى القول إنهم ناجون، رويدًا عزيزي.. واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أزل يديك عن أذنيك واصغِ جيدًا، فهذا الصوت الذي لم تسطع أذناك أن تجارياه قد بات نغمة صحو ونوم أهل غزة.. وارفع نظرك واتجه به نحو الأمام، وسر وتأمل المشهدَ الملحمي، نيرانًا تلتهم كل ما ينبض وما لا ينبض، ومن بين لهيبها، تخرج أمٌّ حاملة فلذة كبدها تدفنه وتعدو مسرعة لتبني خيمتها من جديد، وهنًا على وهن، ولتنجّد من ثوبها الطاهر أناسًا أبت طلقاتٌ فجرت آذانهم أن تُجثيهم نحو الخضوعِ لعدوٍ، أثرُه يُمحى مع كل قطرة دم تخرج من جسد نساء ورجال وأطفال غزة العزة.
هنا نحن.. هنا نساء فلسطين.. نسابق الزيتون تجذّرًا وانتماءً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

