شعار قسم مدونات

أي نظام عالمي ينتظرنا؟

لم يخطئ بوتين عندما وصّف العملية التي يمرّ بها النظام العالمي بـ"المعقّدة والمؤلمة" (رويترز)

نشر الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب، الثلاثاء 9 يوليو/ تموز الجاري، في مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، مقالًا له بعنوان "انتهى عصر الهيمنة الغربية كما نعرفه". ورأى فيه أن ما نشهده اليوم يعادل، في كثير من النواحي، ما حدث في أعوام: 1918 و1945 و1989، مرجحًا أن "تحدّد الأعوام القليلة المقبلة النظام العالمي وتوازنه ودينامياته، خلال القرن، أو على الأقلّ خلال عقود مقبلة".

منطقي الرئيس الفنلندي في تكهّنه حول النظام المزمعةِ إقامتُه، فهو لم يكتب ذلك من فراغ، بل بنى تحليله على ما يراه من أحداث وتغييرات في هذا النظام، لاسيما مع صعود دول لديها الإصرار على حجز مقعد لها فيه؛ لكنّه لم يُصب في قراءته للتاريخ، على اعتبار أنّ ما جرى في الأعوام التي ذكرها، والتي كانت بمثابة بداية لمرحلة جديدة في النظام العالمي، لا تشبه أحداث عام 2024.

ففي عامي 1918 و1945 كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية قد انتهتا على قاعدة "رابح ومهزوم"، حيث أُخذ الخاسر في الحرب إلى مؤتمر لتوقيع الاستسلام، بينما توجّه الرابح لإعلان انطلاق النظام الجديد، إما لتكريس الانتداب كما حصل بعد الحرب الأولى مع فرنسا وبريطانيا، وإما لبناء نظام القطبين الذي سبّب الحرب الباردة بين القطب الشيوعي، والقطب الليبرالي.

يعتبر بعض المتابعين أنّ الانتقال إلى نظام جديد قائم وهو في طريقه إلى إحداث التغيير، يستند إلى تلك الحروب الجارية في العالم، ومنها حرب أوكرانيا التي اتّبعتها موسكو ضمن سياسة "ليّ ذراع" الغرب

أما في عام 1989، فقد كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت الولايات المتحدة تستعدّ لإطلاق نظامها الجديد المرتكز على العولمة في جعل الحضارة الأميركية قوة مهيمنة على مختلف الصعد، فكريًا وثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لدرجة بات معها بعض الباحثين يطلقون على النظام "الأمركة" بدل "العولمة".

إعلان

كم هي بعيدة تلك التشبيهات في التواريخ والأحداث بين الأمس واليوم، فالغرب اليوم ليس برجل مريض يعمل البعض على تقاسم نفوذه، كما أن الدول الغربية لم تزل متمسّكة بقرار الهيمنة على النظام، وهي إلى الآن متماسكة في رفض إشراك الآخر المختلف، وهي لا تتقبّل فكرة التشارك، بدليل أنّها لم تزل تفرض عقوباتها على الدول لمنعها من المنافسة، كما هو حال الشركات الصينية المصنّعة للسيارات الكهربائية؛ إذ أعلنت بكين في يونيو/ حزيران الماضي أنها احتجّت لدى الاتحاد الأوروبي بعد أن قرّر فرض عقوبات على 19 شركة صينية بتهمة المساهمة في المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا.

يعتبر بعض المتابعين أنّ الانتقال إلى نظام جديد قائم وهو في طريقه إلى إحداث التغيير، يستند إلى تلك الحروب الجارية في العالم، ومنها حرب أوكرانيا التي اتّبعتها موسكو ضمن سياسة "ليّ ذراع" الغرب، لاسيما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي بدأ يتمدّد على حساب الأمن القومي الروسي. لهذا وجد الرئيس الروسي فرصته للانقضاض على هذا النظام، وعلى القوى العاملة فيه.

إذ إن سير التحركات الدولية يؤكّد على أن إصرار الروسي والصيني ومن يدور في فلكهما مستمرّ لإزاحة الهيمنة الأميركية. إذ قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "إن تشكيل نظام عالمي يعكس التوازن الحقيقي للقوى، وواقعًا جيوسياسيًا واقتصاديًا وديمغرافيًا جديدًا هو عملية معقدة، بل إنها مؤلمة للأسف من نواحٍ كثيرة".

حديث بوتين جاء أمام الجلسة العامة للمنتدى البرلماني العاشر لدول مجموعة "بريكس"، الذي جرت وقائعه في قصر تافريد بمدينة سان بطرسبورغ. ولا شكّ أن مجموعة البريكس لا تقلّ أهمية عن قمة شنغهاي الاقتصادية، وغيرها من القمم والمجموعات التي تسعى فيها الدول إلى إيجاد توازن اقتصادي ونقدي على الساحة الدولية، أمام مجموعة الدول السبع ذات الانتماء الغربي، ثقافيًّا واقتصاديًّا وماليًّا.

في ظلّ التخبّط الدولي القائم في العلاقات الدولية، ومع استمرار الفوضى الدولية من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وصولًا إلى بحر الصين الجنوبي، فالمؤكّد أنه ليس واضحًا تحديد التاريخ الذي سيقوم عليه النظام العالمي الجديد

لم يخطئ بوتين عندما وصّف العملية التي يمرّ بها النظام العالمي بـ"المعقّدة والمؤلمة"، فهذا واقعي، لاسيما أن الغرب لا يقدّم أوراق تنازلاته عن الدور الذي يمارسه؛ بدليل أنه في نهاية الاحتفال بمرور 75 عامًا على تأسيسه، أعلن أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذين اجتمعوا في واشنطن بين 9 و11 يوليو/ تموز الجاري، عن الاستمرار في دعم كييف في حربها مع روسيا، في حين طالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلفاءه الغربيين بالسماح لقواته باستخدام الأسلحة الغربية لضرب أهداف داخل روسيا.

إعلان

أطلق عالم السياسة الأميركي غراهام تي أليسون مصطلح "فخ ثيوسيديدس"، لوصف نزعة واضحة نحو الحرب، عندما تهدّد قوة صاعدة قوى عظمى مهيمنة إقليميًا أو دوليًا. هذا المصطلح ينطبق على واقع الدول المتصارعة اليوم، والتي تعمل كل جهة فيها على "خربطة" النظام القائم، في سبيل إعادة بنائه بما يتناسب مع حجم الانتصار لهذه الدول.

صحيح أن التواريخ السابقة أنتجت أنظمة عالمية، وأتت بمؤسساتها العاملة على قاعدة تسيير شؤون النظام، إلا أنه في ظلّ التخبّط الدولي القائم في العلاقات الدولية، ومع استمرار الفوضى الدولية من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وصولًا إلى بحر الصين الجنوبي، فالمؤكّد أنه ليس واضحًا تحديد التاريخ الذي سيقوم عليه النظام العالمي الجديد، كما أنه لم تتحدّد بعدُ المؤسسات العاملة فيه، ولا حتى القوى الفاعلة.

بعيد الحديث عن نظام عالمي جديد، لم يزل العالم يتحرّك داخل لوحة الفنان السوريالي سلفادور دالي الشهيرة، التي أطلق عليها "طفل الجيوبوليتيكة"، الذي لم يزل في حالة انتظار لرؤية الإنسان الجديد، كما أن اليد القابضة التي عنى بها ظهور النفوذ البريطاني في اللوحة لم تزل قابضة، ولكن دون أن يحدّد دور أيٍّ من الدول التي ستخرج بعد الولادة.

"معقّدة ومؤلمة" هي الحالة التي تنتظر البشرية، لاسيما وسط غموض حول مصير الانتخابات الأميركية المزمع إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، حيث سيتحدّد بعض من شكل النظام العالمي في حال فوز المنافس الجمهوري دونالد ترامب، الذي سيعمل على إنهاء الحرب في أوكرانيا لصالح موسكو، وسيعمل على إنهاء حلف شمال الأطلسي، ما سيسهّل ولادة نظام متعدّد الأقطاب، إلا إذا عاد الديمقراطي إلى السلطة مع بايدن أو غيره.. عندها قد يشهد العالم حالة صدامية دامية قبل تحديد المصير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان