في يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2013م، استيقظنا جميعًا في بانغي عاصمة أفريقيا الوسطى على صوت الرصاص!
وبعد الساعة السابعة صباحًا رأينا جثث الموتى من المسلمين، جاؤوا بها إلى مسجد نور الإسلام، وعلمنا أن هناك حربًا أهلية دينية، حدث فيها هجوم قامت به مليشيات "أنتي بالاكا" على "السيليكا"، ولكن الهجوم لم يكن على معسكرات "السيليكا" بل على جميع المسلمين حتى الذين في المساجد! وقد وصل إلى مسجد نور الإسلام في ساعات الصباح أكثر من 70 قتيلًا من المسلمين!
ومن هنا جلست أفكر.. إننا دخلنا في حرب دينية.. فماذا يكون دوري أنا كمواطن مسلم وإمام؟
أول ما قمتُ به توعية الشباب المسلمين بضرورة ألا يقتلوا أحدًا من الجيران، أو الناس الذين يسيرون في الطرقات، لأن حالة خوف تسود بين جميع السكان
فكّرت في جيراني غير المسلمين أولًا، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أوصى بالجار، فالحي الذي نسكن فيه أغلبية سكانه من المسلمين، أصابني الخوف على جيراني المسيحيين من أن يُعتدى عليهم من المسلمين الذين تمّ قتل أقربائهم في الأحياء التي وقع فيها الهجوم، انتقامًا لهم.. فمنذ بداية الحرب، بدا لي من وجهة نظري أن المسيحيين ليسوا كلهم من "الأنتي بالاكا"، كما أن المسلمين ليسوا كلهم من "السيليكا"؛ و"الأنتي بالاكا" و"السيليكا" كانتا تتقاتلان من أجل الحكم وليس من أجل النصرانية والإسلام.
فأول ما قمتُ به توعية الشباب المسلمين بضرورة ألا يقتلوا أحدًا من الجيران، أو الناس الذين يسيرون في الطرقات؛ لأن حالة حرب وخوف تسود بين جميع السكان.. كنا في أثناء القتال نقف في الطريق، فجاء رجل ومعه ابنه الصغير وزوجته، وكان الرعب يبدو عليهم، وقام بعض الشباب في الحي بتوقيفهم وتفتيش حقيبتهم، ووجدوا في الحقيبة حذاء عسكريًا، فقال الشباب: هذا رجل عسكري ويجب أن نقتله، لأن العسكر قاموا بقتل أهلنا الأبرياء في المساجد.
هنا تدخلتُ وأمسكت بيد الرجل لأن الموقف حصل في الشارع وأمام بيتي، فقلت لهم: الرجل ليس عسكريًا وأنا أضمن أن يجلس معي في البيت، ولكن بعض الشباب الغاضبين أصروا على أنه عسكري ولابد من قتله، ولكنني رفضت، وأكدت لهم أن الرجل ليس عسكريًا، وأدخلته هو وزوجته إلى بيتي، وأتيت لهم بماء وطعام، وطمأنتهم إلى أنه لن يؤذيهم أحد.
وفي يوم 28 فبراير/ شباط 2015م، قمتُ بزيارة إلى مدينة يالوكي، وهي تبعد عن العاصمة بانغي 240 كيلومترًا، وكان الهدف زيارة نحو 500 مسلم محاصرين هناك، وفي ذلك الوقت كانت مليشيا "الأنتي بالاكا" هي المسيطرة على الطريق، وكان يرافقني مجموعة من الرجال من المسيحيين ومن المسلمين، وكان أحد المسيحيين واحدًا من كبار المحامين في أفريقيا الوسطى، وكان معنا أيضًا مدير منظمة أطفال بلا حدود (ONG ENFANTS SANS FRONTIERE).
نظر إليَّ زعيم "الأنتي بالاكا" وقال لي إنك محظوظ، ثم أطلق سراحي بدون مقابل، فالمحامي ومدير المنظمة كلاهما غير مسلمين، ولكنهما أثبتا لنا بالدليل أن المسيحيين ليسوا كلهم من "الأنتي بالاكا"، وكذلك ليس كل المسلمين من "السيليكا"
وعندما صرنا قريبين من مدينة يالوكي تم إيقاف السيارات، وقام أحد الجنود بإنزالي من السيارة وقال لي: أنت من "السيليكا"، ولا بد أن نقتلك!.. لم أتكلم، بل اكتفيت بالنظر والصمت.. نزل كل من المحامي الكبير ومدير المنظمة، وقالا للجندي بكل ثقة: هذا الرجل هو إمام وليس عسكريًا، وليس له علاقة بـ"السيليكا"، هو مسلم ولن نسمح لكم بقتله، فقد جاء معنا، ونحن في زيارة إلى المحاصرين في يالوكي، وإذا قتلتموه فسوف تتم مهاجمتكم من الأمم المتحدة.
ثم نظر إليَّ زعيم "الأنتي بالاكا" وقال لي إنك محظوظ، ثم أطلق سراحي بدون مقابل، فالمحامي ومدير المنظمة كلاهما غير مسلمين، ولكنهما أثبتا لنا بالدليل أنه ليس كل المسيحيين هم من "الأنتي بالاكا"، وكذلك ليس كل المسلمين هم من "السيليكا".
ومما شهدته أثناء الحرب أن حي "km 5" لم يكن فيه مستشفى لتوليد النساء، وبعض النساء المسلمات كنّ يلِدن بطريقة العصور الوسطى في البيوت، لأن الحي تمت محاصرته، ولا أحد يستطيع الخروج منه إلا بحماية من القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتنسيق مع القوات يأخذ الكثير من الوقت، وكانت زوجة زميل لي على وشك الولادة، والطريق مغلق، ولكن رئيسة الحي – غير المسلمة – لديها معرفة أولية بعلم التمريض، فقامت بمساعدة زوجة زميلي حتى ولدت طفلها.. وقد ساعدت أيضًا كثيرات من النساء المسلمات في الحي الذي نسكن فيه.
هذه السيدة قام المسلمون في الحي بحمايتها وتوفير الأمن لها حتى انتهت الحرب، وفي هذا العام كانت هناك انتخابات لرؤساء الأحياء في العاصمة بانغي، وقد تم انتخابها رئيسةً للحي مع أن منافسها في انتخابات رئاسة الحي كان رجلًا مسلمًا، ولكنْ بسبب معاملتها للمسلمين اختاروها لتكون رئيسة الحي، علمًا أن 95% من سكان الحي هم مسلمون.
الأزهر الشريف مؤسسة عريقة من كبرى المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، التي تنشر الإسلام الوسطي الذي يرفض العنف والتطرف، وهناك علاقة قوية بين الأزهر والفاتيكان تؤكد أهمية التعايش السلمي بين الشعوب والأديان
وعندما تمت مهاجمة المسلمين في مدينة بانغاسو، وهدمت بيوتهم ومساجدهم، قام قسيس بانغاسو بإيواء المسلمين في الكنيسة.
أمّا أنا، ومعي بعض الشباب المسلمين، وخاصة الذين درسوا في الأزهر الشريف وبعض البلاد العربية والإسلامية، ولأننا خرجنا من حرب دينية، فتركيزنا وعملنا أكثره على السلام والتعايش السلمي، وديننا يحترم عقيدة الآخر ولا يجبره على اعتناق الإسلام، لأن الأصل في الإسلام الاختيار وليس الإكراه.
وكما يعلم الجميع، الأزهر الشّريف مؤسّسة عريقة من كبرى المؤسّسات الدينية في العالم الإسلامي،التي تُعلّم أبناء العالم الإسلامي الدين الإسلامي الوسطي الذي يرفض العنف والتطرف، وهناك علاقة قوية بين الأزهر والفاتيكان تؤكد أهمية التعايش السلمي بين الشعوب والأديان.. كما أنَّ هناك مؤسسة تمّ إنشاؤها من قِبل شيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب وبابا الفاتيكان فرانسيس، وهي مؤسسة الأخوّة الإنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.