صوّر أبو حيان التوحيدي العلاقة بين صديقين بصورة عجيبة غريبة، هي أرقى ما يمكن أن تصل إليه العلاقات بين البشر، وقد يعيش آلاف من الناس دون إدراكها والتنعم بها.. ربما يدركون درجات دونها، ولكن تلك المرتبة من الخلة والصداقة مبلغها صعب، وشأوها بعيد.
فإن تـكـلمـت لـم ألـفـظ بـغيـركـم
وإن سكت فأنتم عقد إضماري
يحكي: قلت لأبي سليمان السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية، فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ ويجيب أبو سليمان قائلًا: يا بني، لقد اختلطت ثقتي بثقته فاستفدنا طمأنينة وسكونًا لا يرُثّان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة ومظاهر غريبة، حتى إننا نلتقي كثيرًا في الإرادات والاختيارات والشهوات والطلبات، وربما تزاوَرنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل، فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان، حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها، فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل أو بعده بقليل".
ثم يقول: "وقلما نجتمع إلا ويحدثني عني بأسرار ما سافرت من ضميري إلى شفتي، ولا ندّت عن صدري إلى لفظي، وذلك للصفاء الذي نتساهمه، والوفاء الذي نتقاسمه، والباطن الذي نتفق عليه، والظاهر الذي نرجع إليه، والأصل الذي رسوخنا فيه، والفرع الذي تشبثنا به، والله ما يسرني بصداقته حمر النعم".
أنتم سروري وأنتم مشتكى حزَني .. وأنتم في سواد الليل سماري
أنتم وإن بـعـدت عـنـا منـازلــــكم .. نوازل بين أسراري وتذكاري
فإن تـكـلمـت لـم ألـفـظ بـغيـركـم .. وإن سكت فأنتم عقد إضماري
هذه مرتبة من العلاقة بين صديقين، تحتاج إلى كثير من تصفية النفس وتهذيب الطباع وترويض السلوك، ثم هي إذا تهيأت لها أسباب النشوء بحاجة إلى إمدادها بأسباب البقاء والارتقاء، من الرعاية والوفاء والمساندة والجود والسماحة. وهي مع ذلك تستوجب الرعاية من آفات النفس وأدوائها.
يخيل لأناس بعد طول معاشرة مع بعض الأصدقاء وانبساطهم فيما بينهم، واشتراكهم في هموم واهتمامات، أنهم "أصدقاء حقيقيون"، فإذا مسّه الضر ونابه الدهر وألجأته الحاجة إلى أحدهم، عاد خائبًا كسيرًا
وإن كان هذا الاصطفاء من الصداقات عزيزًا، فهو أيضًا في عداد الأرزاق والأفضال التي يقسمها الله بين عباده، يهبها لمن يشاء ويحجبها عمن يشاء. غير أن دون هذا الاصطفاء درجات، وحول الإنسان دوائر من العلاقات تقترب منه وتبتعد بحسب ضرورات الحياة، أو التوافق في طبائع النفس واهتماماتها.
والدائرة الأضيق التي ربما يحظى بها المرء لا يتعدى عددها عدد أصابع اليد الواحدة، وهو رقم قياسي عند غازي القصيبي، الذي يفرق بين ثلاث دوائر من الأصدقاء، فيسمي الدائرة الأولى "الأصدقاء الحقيقيين". والواحد في هذه الدائرة هو الذي تستطيع أن تكل إليه، وأنت على فراش الموت، رعاية أولادك وتموت وأنت مطمئن البال، وهو كذلك "طلاع عليك مع الخطوب".
يخيل لأناس بعد طول معاشرة مع بعض الأصدقاء وانبساطهم فيما بينهم، واشتراكهم في هموم واهتمامات، أنهم "أصدقاء حقيقيون"، فإذا مسّه الضر ونابه الدهر وألجأته الحاجة إلى أحدهم، عاد خائبًا كسيرًا؛ لأن من قصده لم يسعفه أو ينجده، بل ربما لم يواسِه حتى بجميل الكلام.
ومن هنا تحصل الصدمة للإنسان حين يضع ثقته في غير موضعها.. ولا يتحمل الصديق عبء ذلك، بل يتحملها هو لأنه لم يمايز بين دوائر الأصدقاء، فمن قصده لم يكن من دائرة "الأصدقاء الحقيقيين"، بل من دائرة "الأصدقاء العاديين"، وهم كل من يجمعك بهم ظرف زماني أو مكاني من زملاء العمل أو الدراسة أو المؤانسة.
غربة الأصدقاء تمنع من ملاحظة الصديق لتقلبات صديقه، ومراقبة تطوراته الفكرية وتقلباته النفسية.. غربة الأصدقاء تترك الصديق مفترَسًا للهموم والأوجاع، مكشوفًا لنوائب الدهر وحوادث الزمان
وقد تتطور إحدى تلك العلاقات إلى صداقة لكنها لا تبرح دائرة "الأصدقاء العاديين"، وليس هذا تقليلًا من شأن هذه الدائرة، فهي مهمة للإنسان في مختلف أطوار حياته؛ فيحتاج إلى أصدقاء يأنس بهم ويضاحكهم، وهو بحاجة كذلك إلى أصدقاء يخففون عنه وعثاء الوظيفة والعمل، وهو ينزع إلى تكوين صداقات في أي مكان يقصده للتخفيف من وحشة الاغتراب.
هذا الاغتراب الذي يضاعف الأحزان وينقص الأفراح ويوحش النفوس، هو كذلك يؤثر على الصداقات الحقيقية ويبهتها ويوهن أواصرها، وإن بقيت أساساتها متينة وقواعدها راسخة.
غربة الأصدقاء تمنع من ملاحظة الصديق لتقلبات صديقه، ومراقبة تطوراته الفكرية وتقلباته النفسية.. غربة الأصدقاء تترك الصديق مفترَسًا للهموم والأوجاع، مكشوفًا لنوائب الدهر وحوادث الزمان، يحمل أكلاف الحياة وحيدًا خلوًا من أنيس يسلي، أو قريب يؤازر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.