لا يمتري أهل العقل الرجيح في أن التعليم يعتبر أساسًا مرجعيًا لقياس مستوى تقدُّم الشعوب ونهضة الأمم، فهو المنقذ من ضلال التخلّف والتشتت الحضاري، كما شكّل منذ الأزل المحضن الخصيب لصناعة الإنسان الأريب، والمفكّر الحصيف، والتعليم وحده من يضطلع بإنتاج النوعية البشرية القابلة للتمدن، المؤهلة للبعث الحضاري.
فبالعلم والمال يبني الناس ملكهم .. لم يـبـنَ ملـك على جهـل وإقلال
مما يؤكد وعي القيادة السياسية السنغافورية بجدوى الاستثمار في التعليم ما قاله لي كوان يو: رفضتُ أن أوجّه موارد الدولة لشراء السلاح كما يفعل حكّام العالم الثالث، بل وجهت معظم موارد الدولة للتعليم
وإذا استقرأنا التجارب المعاصرة الرائدة في البناء الحضاري، فسنجد أنها تشترك في لازمة واحدة طبعت تجربتها التنموية، وهي الاستثمار في التعليم، والمراهنة عليه في نجاح جميع المشاريع النهضوية. ومن القادة الرائدين في هذا الميدان رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو (Lee Kuan Yuw)، الذي قرّر في خطته للتنمية الشاملة أن يجعل التعليم محورًا لنهضة البلاد، ونقلها من حالة الفشل والكساد إلى الازدهار، فتحقّق له ما أراد.
ومن أشهر ما صرّح به: "الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأتُ به عندما تسلّمت الحكم فـي دولة فقيرة جدًا، اهتممتُ بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم، فبَنيْتُ المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم، ومن ثم استفدت من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري". وقال أيضًا: "أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيّرت مكانة المعلمين من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم، وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن، وأي مسؤول يحب بلده ويهتمّ بشعبه كان سيفعل مثلي".
فالتجرِبة السنغافورية تعلمنا أن الاستثمار في التعليم هو البديل الأوحد للتنمية الشاملة والمستدامة عندما تتضاءل الموارد المادية والمالية، بل إن هذه الأخيرة ستفقد فاعليتها في حال انعدام تعليم متطور قادر على تجذير الوعي المجتمعي، ورفع مستوى التمدن والتحضر، وقادر على تحويل الموارد والثروات إلى منجزات حضارية شاهدة على عبقرية الإنسان.
ومما يؤكد وعي القيادة السياسية السنغافورية بجدوى الاستثمار في التعليم ما قاله لي كوان يو: "رفضتُ أن أوجّه موارد الدولة لشراء السلاح كما يفعل حكّام العالم الثالث، بل وجهت معظم موارد الدولة للتعليم، فتحوّلت سنغافورة من دويلة فقيرة مديونة إلى واحدة من أسرع اقتصادات العالم نموًا، فالتعليم هو سرّ نجاح سنغافورة".
من القادة الذين نجحوا في تجربة البناء الحضاري رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، الذي أكد أن التعليم كان سر نجاح التجربة التنموية الماليزية
وهذا يشير إلى أن النهوض بالتعليم يجب أن يكون من أولويات القادة السياسيين، الذين يمتلكون وعيًا كافيًا بأهمية التعليم في عمليات التنمية المستدامة، وتطوير ذهنيات وممارسات الشعوب، وهذه الحقيقة -للأسف- تكاد تنعدم عند أغلب قادة الدول العربيّة، ودول العالم الثالث إلا نزرًا يسيرًا منهم، فغالبيتهم لا يرون الاستقرار والاستثمار إلا في قوة الجيوش والسيطرة الشاملة.
ومن القادة الذين نجحوا في تجربة البناء الحضاري رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، الذي أكد أن التعليم كان سر نجاح التجربة التنموية الماليزية، ومما جاء عنه: "التعليم هو سبب نجاح التجربة الماليزية ونقلها من العالم الثاني لتصل إلى مصاف الدول المتقدمة.. مضيفًا: إن ربع الميزانية كان مخصصًا للتعليم."
فهذا التصريح لمهاتير محمد يَنِمُّ عن مستوى وعي راقٍ لقائد سياسي أدرك أن التعليم هو أمّ الأولويات التنموية، وتجلى ذلك في حجم المخصصات المالية التي أولتها الحكومة الماليزية للتعليم بكافة أطواره، والتي وصلت إلى ربع ميزانية الدولة – كما صرّح بذلك في برنامج "شاهد على العصر"- لأنه استثمار رابح، بخلاف ما يعتقده بعض القادة في الدول النامية من أن التعليم ليس قطاعًا منتجًا، وهو لا يقدم عوضًا ماديًا يوازي ما ينفق عليه من أموال.
ويكفي في ذلك ما قاله د. فيكتور شيا، خبير الجودة في كوريا الجنوبية: "لا توجد دولة تتحمل إنتاج جيل كامل دون تعليم جيد، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخليًا لتتفتت وتفقد وجودها". نعم؛ فتكلفة إبقاء أجيال متتابعة على الجهل وقلة الوعي، ستكون باهظة على الاقتصاد والتنمية وباقي القطاعات، ولا خلاص من ذلك إلا بالاستثمار في التعليم، الذي ستظهر نتائجه بصورة جلية ومباشرة على المديين المتوسط والبعيد في كل المجالات الحيويّة الأخرى.
يشير الدكتور ليو فو شينغ في مقاله: "القفزة الكبرى للتعليم في الصين" إلى أن: "التعليم الصيني قد حقق في الفترة الثانية (فترة الإصلاح والانفتاح بعد 1978) إنجازات تاريخية عظيمة، إذ حوّلها من بلدٍ أكثر من 80% من سكانه أميون إلى بلد غني بالأكفاء
ولعلّ هذا ما دفع الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، إلى القول: "التعليم هو أمضى سلاح يمكن أن نستخدمه لتغيير العالم". وهذا يؤكد لنا أن التعليم كان محور إستراتيجية مانديلا لتغيير الوضع المأساوي، الذي كانت عليه جنوب أفريقيا جراء سياسات "التمييز العنصري"، وما جلبته من مأساة إنسانية، تجلت آثارها في تفكك النسيج الاجتماعي وانهيار البناء الاقتصادي، فأدرك مانديلا أن الأزمة تنحصر في "بناء الإنسان" و"إصلاح فكره"، ولا يمكن إصلاحه وبناؤه إلا بالتعليم، فاتجهت بوصلة الإصلاح نحو إعادة الاعتبار للتعليم وتعديل مناهجه، لتتلاءم مع الأهداف الإستراتيجية التي رسمتها جنوب أفريقيا في عهدها الجديد.
وبالرجوع إلى تجربة العملاق الصيني في مجال الاستثمار التعليمي، فهي تعود إلى التوجيهات الأولى لرائد النهضة الصينية الرئيس ماو تسي تونغ في 1949، الذي ورث وضعًا اجتماعيًا واقتصاديًا متدهورًا، ونسبة عالية من الأمية، فقرر ماو حينها أن يراهن على التعليم في خطته الإصلاحية، واعتبر أن "استعادة وتطوير تعليم جماهير الشعب من أهم المهام في الوقت الحاضر"؛ كما أكد أن "سياستنا التعليمية يجب أن تتيح للمتعلمين فرصة التطور أخلاقيًا وفكريًا وبدنيًا، وأن يصبحوا قوة عاملة ذات وعي اشتراكي وتعليم جيد."
ويشير الدكتور ليو فو شينغ في مقاله: "القفزة الكبرى للتعليم في الصين" إلى أن: "التعليم الصيني قد حقق في الفترة الثانية (فترة الإصلاح والانفتاح بعد 1978) إنجازات تاريخية عظيمة، إذ حوّلها من بلدٍ أكثر من 80% من سكانه أميون إلى بلد غني بالأكفاء، وحوّل عدد السكان الضخم من عبء إلى ميزة في الموارد البشرية، ساهمت بقوة في تنفيذ الإصلاح والانفتاح. وتهدف الصين حاليًا إلى تحقيق التحديث التعليمي بحلول عام 2035، مع سهولة الوصول إلى التعليم الجيد من روضة الأطفال إلى الجامعة، لتصبح قوة ذات موارد بشرية وقدرات إبداعية."
ولعلّ هذه التجربة الرائدة اسْتُلْهِمت من عطاءات تلك الحكمة الصينية التي حُقَّ لها أن تُرسَّخ في عقول القادة وتتجسد في مخططاتهم وسياساتهم التنموية: "إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحًا، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانًا."
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.