شعار قسم مدونات

أموات وأحياء

خبر خاص /أكلوا كل شيءٍ يتحرّك.. وزارة التنمية الاجتماعية لـ - الجزيرة نت - 98% من الموجودين بالخرطوم يحتاجون إلى الغذاء مصدر الصور: إعلام الجيش
كيف ننسى؟ الحقيقة نحن لا ننسى ولا أعتقد أننا مطالبون بذلك بل علينا أن نتعايش مع ما لا يملك المرء منا قدرة على تغييره (إعلام الجيش السوداني)
  • يا طارق الباب..
  • المكان: وسط العاصمة الخرطوم..
  • الزمان: منتصف النهار، حيث آلاف الوجوه والقصص الغارقة في ركام البنايات، ووسط الزحام، هنا حيث تؤرّقنا بعض الحكايات..

اليوم حكاية لم يكن بوسع أحد أن يضع نهايتها، فالموت حين يأتي يضع نهايته التي تليق به، أما نحن فيموت شيء فينا، ومنا من يكمل حياته وهو يحمل أجزاءه بكل هذا التناقض، وآخرون صنعوا لأنفسهم عالمًا آخر بتوقيت ما زال الأموات فيه أحياء.. هكذا فعل مأمون حينما أبقى والده الراحل منذ خمس سنوات حيًا لم يمت.

سيكون بوسعنا الشفاء، دون أن نبقى عالقين في الماضي، فالموت حتمي، أو هو -كما قال جاك دريدا- الوعي المسبق بحتمية النهاية

وللمرة الأولى يزور مقر عمل والده، حيث ضلّ الطريق قبل أن يصل، هذا ما يحدث عندما تتمدد مساحات الموت داخلنا، وجد مأمون المكان مغلقًا، لا شيء سوى أطلال باستثناء بعض الوجوه التي عانقها كأنه يعانق بعضًا من والده الراحل، اكتست ملامحه بالدهشة والألم، ظن أن لا شيء قد يتغير، شعر أنه قد تأخر كثيرًا، ولكن ما هو شعوره حين يجد نفسه في وقت ما قد تأخر عن الحياة، وأفلتت لحكيف ننسى؟. الحقيقة، نحن لا ننسى ولا أعتقد أننا مطالبون بذلك، بل علينا أن نتعايش مع ما لا يملك المرء منا قدرة على تغييرهظاتها من بين يديه، وهو مشغول بالعزف على أوتار ما مضى؟

أراد بزيارته أن يعيد إحياء الموت بداخله، لكن شعورًا في داخله كان قد تحرّر عندما وجد المكان مغلقًا.

إعلان

توجه بعدها إلى شجرة، في ظلها تُعدّ امرأة في العقد الخامس من عمرها القهوة والشاي، واقترب معرفًا بنفسه: "أنا مأمون يا خالتي آمنة".. لم تتعرف عليه، فأعاد التعريف بنفسه، تعانقا.

يجلس ليغرق في تفاصيل المشهد، تسأله الخالة آمنة وهي تعد القهوة: وين ناصر؟ يجيب ببساطة معقدة: "أبوي مات".. تلقي آمنة ما في يديها، تمسك رأسها وتقول: متى؟ ثم تخفي هي الأخرى دمعها.

أما مأمون، فحين قال ببساطة "أبوي مات" بدا أنه يوقن بذلك، لكنه ما زال عالقًا، بخيوط الماضي يعيد حياكة لحظات حياته الحالية التي اهترأت وتوشك على الفناء، ولعله لا يدري أن هذا الماضي الذي يعيد إحياءه من جديد يصنع به لحظات أوهن من بيت العنكبوت، ينسى أننا محكومون بالفناء، وأن ذلك الرحيل الجسدي الأبدي لا يعني انقطاع اتصالنا بمن نحب، أو بمن كنا جزءًا منهم وكانوا منا.

سيكون بوسعنا الشفاء، دون أن نبقى عالقين في الماضي، فالموت حتمي، أو هو -كما قال جاك دريدا- الوعي المسبق بحتمية النهاية.

لعل الخلاص في إدراك ما نغفل عنه في خضم مواساتنا

بـإنا لله وإنا إليه راجعون

وقال: "لقد تدلى العالم بأكمله في دمعة فريدة؛ دمعة تعكس الغياب في كثافته، فالموت لا يسلبنا زاوية من زوايا عالمنا، أو لحظة كانت تخصنا في يوم من الأيام فحسب، وإنما يسلبنا في كل لحظة ودون رحمة، شخصًا تجسد لنا على صورة العالم، أو بالأحرى على صورة عالمنا الخاص الذي أضحى الآن هشًا دونه". وقال: "تغرق مع الراحل قطعة من روحنا؛ كينونة كانت بالنسبة لنا هي العالم الأكبر أو العالم الأوحد.. هذه اللحظة تغرق الآن في الهاوية".

جميعنا تؤرقه هذه الحكايات، أو فلنقل بعضنا.. فأين يكمن الخلاص؟!

ربما يأتي من وعينا في لحظة خلو مع النفس بشيء من حقيقة هذه الدنيا، التي نشبهها وتشبهنا، من ملامحها التي تحمل ما نعتبره أحيانًا تناقضًا، لكنها أشبه بمجموع لحظات مليئة بهيئتنا البشرية، ليست الخارجية، بل هيئتنا الداخلية حين نمتلئ بمشاعر الحب والكره والبغض والفرح والسعادة، واللا شيء أحيانًا، حين نشعر أننا ممتلئون بالحياة، وذابلون في أوقات أخرى، عندما نسير أحيانًا كأننا في مقتبل العمر، وفي أوقات أخرى كأننا في نهايته.

إعلان

لعل الخلاص في إدراك ما نغفل عنه في خضم مواساتنا بـ"إنا لله وإنا إليه راجعون".

وما زلنا نتساءل: كيف ننسى؟. الحقيقة، نحن لا ننسى ولا أعتقد أننا مطالبون بذلك، بل علينا أن نتعايش مع ما لا يملك المرء منا قدرة على تغييره، ما يكون حتميًا كالموت، فلا خلود، إنه الفناء.

بعض الموت والرحيل لا شفاءَ أبديًا منه، خاصة ذلك المتصل بالروح، لكن ثمة شفاء يتيح لنا أن نحيا لحظتنا الراهنة مع إدراك أن ذلك ليس خيانة لذكراهم

  • كيف نتعايش إذًا؟ الرضا

قال جبران خليل جبران: "صدقني، لو فقدت ما فقدت، لو كسر الحرمان أضلعك، ستجتاز هذه الحياة كما يجتازها كل أحد، فاختر الرضا يهنْ عليك العبور".

  • هل ثمة شفاء؟

بعض الموت والرحيل لا شفاءَ أبديًا منه، خاصة ذلك المتصل بالروح، لكن ثمة شفاء يتيح لنا أن نحيا لحظتنا الراهنة مع إدراك أن ذلك ليس خيانة لذكراهم، هم باقون حتى في حاضرنا، ولكن على هيئتهم الحقيقية، موتى، ولا حاجة لإخفاء دمعنا، لا حاجة للخوف من رؤية ما بعد الألم، فلا شيء سوى إعادة ترتيب مشهد كرزنامة التاريخ.

ختامًا.. يقول الروائي موراكامي: لو كان يرغب في الهروب لكان قد فعل ذلك منذ أمد بعيد، ففي نهاية المطاف كان سجنه هو قلبه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان