عندما حطت بي الطائرة في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، لم أكن أدرك حجم التحدي الثقافي واللغوي الذي ينتظرني.. أنا، الشاب السوداني الذي نشأ على ضفاف النيل، وجدت نفسي فجأة في قلب المغرب، أرض الأطلس والصحراء.
في الأيام الأولى، كانت اللهجة المغربية الدارجة بمثابة لغز محير؛ رغم إتقاني للعربية الفصحى، كنت أجد نفسي أحيانًا عاجزًا عن فهم أبسط العبارات.. "واش بغيتي شي حاجة؟" سألني بائع في السوق، وأنا أحملق فيه بارتباك، محاولًا فك شفرة كلماته. مع الوقت، بدأت أدرك أن اللهجة المغربية هي مزيج ساحر من العربية والأمازيغية والفرنسية، تعكس تاريخًا غنيًّا من التنوع الثقافي.
العادات اليومية شكلت تحديًا آخر.. في السودان، اعتدت على وجبة الفَطور الدسمة من الفول والطعمية، لكنني هنا وجدت نفسي أمام خبز الحرشة والبغرير مع الشاي بالنعناع! كان الأمر غريبًا في البداية، لكنه سرعان ما أصبح جزءًا محببًا من روتيني الصباحي.
الموسيقى كانت عالمًا جديدًا تمامًا.. بدلًا من أنغام العود والطُنبور السودانية، وجدت نفسي أستمع إلى إيقاعات الأحواش الأمازيغية والموسيقى الشعبية المغربية
تحيتهم السلام
التحية اليومية كانت مصدر ارتباك آخر؛ ففي حين اعتدت على "السلام عليكم" البسيطة، وجدت المغاربة يتبادلون سلسلة طويلة من العبارات: "لاباس عليك؟ كيف داير؟ كولشي مزيان؟".. استغرق الأمر وقتًا لأتعلم أن هذه ليست مجرد كلمات، بل هي تعبير عن دفء وحفاوة أصيلة.
في الشارع، لاحظت اختلافات في الملابس والمظهر العام؛ النساء المغربيات يرتدين الجلابيب الملونة والقفطان في المناسبات، بينما اعتدت في السودان على رؤية الثوب السوداني التقليدي، والرجال هنا يرتدون الجلابية المغربية، التي تختلف في شكلها عن الجلابية السودانية.
الموسيقى كانت عالمًا جديدًا تمامًا.. بدلًا من أنغام العود والطُنبور السودانية، وجدت نفسي أستمع إلى إيقاعات الأحواش الأمازيغية والموسيقى الشعبية المغربية. في البداية، بدت غريبة على أذني، لكنني سرعان ما وجدت نفسي أتمايل مع ألحانها الساحرة.
الطقوس الاجتماعية كانت مختلفة أيضًا.. في السودان، نجتمع حول صينية الأكل الكبيرة، بينما هنا في المغرب، الطاجين هو محور الوجبة العائلية.. تعلمت فن أكل الكسكس باليد، وكيفية تقاسم الطعام من وعاء واحد، وهو تقليد يشبه ما نفعله في السودان، لكن بنكهة مغربية خاصة.
مع مرور الأسابيع، بدأت أكتشف جمال هذه الاختلافات، وجدت في التنوع اللغوي والثقافي للمغرب انعكاسًا لثراء العالم العربي، بدأت أستمتع بتعلم كلمات جديدة كل يوم، وأجد متعة في اكتشاف نكهات الطعام المغربي الغنية.
صحيح أن التحدي اللغوي والثقافي كان حقيقيًا، لكنه لم يكن عائقًا بقدر ما كان فرصة للنمو والتعلم. وجدت أن المغاربة، رغم اختلاف لهجتهم وبعض عاداتهم، يشتركون معنا في قيم الكرم والضيافة التي نعتز بها في السودان.
اليوم، بعد فترة من وصولي، أجد نفسي قادرًا على التنقل بين اللهجة السودانية والمغربية بسهولة أكبر، أصبحت أقدّر قيمة هذا التنوع وأرى فيه ثروة، لا عائقًا. نعم، ما زلت أحن إلى طعم الكسرة السودانية، لكنني أيضًا أصبحت لا أستطيع تخيل يومي بدون طاجين مغربي لذيذ.
في النهاية، أدركت أن التحدي الحقيقي لم يكن في اللغة أو العادات، بل في قدرتنا على الانفتاح والتعلم.. فبين ضفاف النيل وسفوح الأطلس، وجدت أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا
فاس العتيقة
إحدى التجارب الأكثر إثارة كانت زيارتي لمدينة فاس العتيقة! هناك، وجدت نفسي في متاهة من الأزقة الضيقة، محاطًا بعبق التاريخ وروائح التوابل، كانت تجربة أشبه بالسفر عبر الزمن، ذكَّرتني بأحياء أم درمان القديمة، لكن بطابع مغربي فريد. في فاس، تعلمت أن التراث ليس مجرد مبانٍ وآثار، بل هو روح حية تسري في عروق المدينة وسكانها.
مع مرور الوقت، بدأت أشعر بالحنين إلى السودان.. كنت أفتقد رائحة البن الجبنة في الصباح، وصوت وردي أو ود الأمين يصدح من راديو قديم في مقهى محلي؛ لكنني في الوقت نفسه، وجدت نفسي أقدِّر جمال المغرب وتنوعه. بدأت أرى أوجه الشبه بين البلدين؛ كلاهما غني بالتاريخ والثقافة، وكلاهما يواجه تحديات وآمالًا مشتركة.
في أحد الأيام، دعاني زميل مغربي لحضور حفل زفاف تقليدي.. كانت تجربة ساحرة، مليئة بالألوان والموسيقى والرقصات التقليدية، رغم اختلافها عن الأعراس السودانية، وجدت فيها مثل روح الفرح والاحتفال التي نعرفها. في تلك اللحظة، أدركت أن الفرح لغة عالمية، تتجاوز حدود اللغة والثقافة.
أصبحت أرى نفسي لا كسوداني فقط، بل كمواطن عالمي، قادر على التكيف والتعلم من الثقافات المختلفة.
في النهاية، أدركت أن التحدي الحقيقي لم يكن في اللغة أو العادات، بل في قدرتنا على الانفتاح والتعلم.. فبين ضفاف النيل وسفوح الأطلس، وجدت أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، وهذه الرحلة بين الثقافتين لم تجعلني أفهم المغرب فحسب، بل جعلتني أفهم وطني الأم، السودان، بعمق أكبر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.