شعار قسم مدونات

عن المعارك في جبهة لبنان.. وانخراط التيارات فيها

الجماعة الإسلامية في لبنان
الجماعة الإسلامية في لبنان (الجزيرة)

كانت القدس عام 1931م على موعد مع المؤتمر الإسلامي الأوَّل لبحث قضية فلسطين، الذي حضرته وفود من معظم العالم الإسلامي، ضمّت رؤساء وملوكًا ووزراء ودعاة.. أصرّ المفتي الحاج أمين الحسيني أن يؤم الناس في الصلاة بالمسجد الأقصى المرجع الشيعي محمد حسين آل كاشف الغطاء، متجاوزًا شخصيات علمائية سُنية بمقام الشيخ محمد رشيد رضا كمثال.

قد تصلح هذه الرواية البالغة الدلالات مدخلًا لمناقشة عدد من المقالات التي انتشرت في الصحافة والمواقع الإعلامية اللبنانية، خصوصًا في الأسابيع الأخيرة، والتي ضمرت بعمومها محاولات الفصل بين سُنّة لبنان والقضية الفلسطينية، واعتبار ما يجري ينحصر في "زيادة حصة إيران من المنطقة"، وخدمة لحزب الله، كما جاء في أحد المقالات.

القضية الفلسطينية منذ أيامها الأولى اجتمعت من أجلها كل الطّوائف في المنطقة العربية، وتكفي الإشارة إلى أنّ أول من نبّه إلى خطر الصهيونية هو المسيحي اللبناني نجيب عازوري، فلا عجب أن يكون السنّة اللبنانيون قد شاركوا في هذا النضال

كان المفتي الحسيني يُدرك أن القضية الفلسطينية لا تحتمل أي انقسام حولها، سواء كان عرقيًّا أو مذهبيًّا أو دينيًّا، وانعكس ذلك على المشاركة الفاعلة في المؤتمر من كلّ المذاهب، وحضر وفد كبير من المسيحيين الفلسطينيين المؤتمر الإسلامي الأول.. ولو تكرر الحدث نفسه اليوم، لاتُّهم فاعله بالولاء لإيران، وأنه يتخلى عن فلسطين لأجلها، وكأنه لا قضية تستحق أن يُبذل جهد في جمع الأمّة حولها.

إعلان

فالقضية الفلسطينية منذ أيامها الأولى اجتمعت من أجلها كل الطّوائف في المنطقة العربية، وتكفي الإشارة إلى أنّ أول من نبّه إلى خطر الصهيونية هو المسيحي اللبناني نجيب عازوري، فلا عجب أن يكون السنّة اللبنانيون قد شاركوا في هذا النضال، كما شارك الشيعة وبقية الطوائف. وما يلفت نظر أي قارئ لتاريخ المنطقة -إبان فترات التحرر من الاستعمار- حجم التعاون بين الثورات والمناطق، واعتبار انتصار أي ثورة هو انتصار للجميع.

فالمفتي الحسيني، يوم حلّت النكبة في سوريا أثناء ثورة 1925م، كان على رأس "اللجنة المركزية لإغاثة منكوبي سوريا" حين انتخبه مؤتمر مكة. ويوم أرسل قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش رسالة إلى المفتي يطلب فيها ألف ليرة ذهبية؛ لأن الثورة ستنطلق خلال أيام، أمّنها الأخير من البنك العثماني على الفور، ثم كان المفتي الفلسطيني القائد الفعلي لما يُعرف بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق (1941م)، كما تورد العديد من المذكرات، بعد أن استقر فترة في لبنان.

وفي الوقت نفسه، لم تبخل شعوب العرب على فلسطين وثوراتها بالمال ولا بالسلاح، وكانت أول ثورة فلسطينية مسلحة عام 1929م مؤلفة بأغلبيتها من عناصر درزية سورية، وهي ما عُرف بثورة الكفّ الأخضر.. والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م أطلق شرارتها استشهاد الشيخ السوري عزّ الدين القسام.

لم يكن ابن طرابلس فوزي القاوقجي بعيدًا من خيارات الأمة حين قاتل في فلسطين عام 1936م، وللمفارقة فإن هذا اللبناني السني أسس تنظيمًا سمّاه "حزب الله" (1925م)، وحرر مدينة حماة من أيدي الفرنسيين

أمّا الحديث عن سنّة لبنان، فإنهم لم يكونوا يومًا بعيدين عن القضية الفلسطينية، ومحاولات سلخهم عنها -عدا فشلها تاريخيًا- أدّت إلى نتائج عكسية، كانت من أسباب ما يراه البعض ضيمًا لحق بهم. ولعلّ أمثلةً نوردها تنعش الذاكرة، وتؤكد الدور التاريخي الذي أدّاه سنّة لبنان من أجل فلسطين، ولأنه لا يخسر الحاضر من يقرأ التاريخ، فلا بأس من ذكر بعض الشواهد.

فهناك مثال مكتب فلسطين الدائم، والذي تأسس عام 1947م، والذي كان من أبرز أعضائه الزعماء البيارتة السنّة حسين العويني وحسن البحصلي والدكتور سليم إدريس. وجمع هذا المكتب أموالًا طائلة ليشتري سلاحًا للمقاومين في فلسطين، وإثرها صرخ عبد القادر الحسيني بوجه اللجنة العسكرية العربية: "إن هذه الأسلحة اشتراها أهل لبنان تلبية لطلبنا، فلماذا أخذتموها ومنعتم تسليمنا إياها؟"، كما يذكر المفتي الحسيني في مذكراته. وما قام به هذا المكتب بعد ذلك يطول شرحه، لكنه يُسجل في تاريخ دعم اللبنانيين لفلسطين ولاجئيها.

إعلان

ولم يكن ابن طرابلس فوزي القاوقجي بعيدًا من خيارات الأمة حين قاتل في فلسطين عام 1936م، وللمفارقة فإن هذا اللبناني السني أسس تنظيمًا سمّاه "حزب الله" (1925م)، وحرر مدينة حماة من أيدي الفرنسيين، وبعد ذلك قاتل في العراق، ليعود بعد سنوات إلى فلسطين قائدًا لجيش الإنقاذ عام 1948م.

ولا يفوتنا أن أول شهيد لبناني في الثورة الفلسطينية المعاصرة هو البيروتي السني خليل الجمل، الذي شارك لبنان بطوائفه في تشييعه عام 1968م، وقرعت الكنائس أجراسها مع مرور نعشه في المناطق ذات الأغلبية المسيحية.. وخريطة الشهداء السنة اللبنانيين لا تكذب، من عكار حتى شبعا، ومن عرسال إلى بقية مناطق البقاع.

 

إن تأسيس قوات الفجر، الجناح العسكري للجماعة الإسلامية، تزامن مع تأسيس حزب الله عام 1982م، لذلك من الغبن الإيحاء وكأن الانطلاقة العسكرية لقوات الفجر حديثة برغبة من الحزب، ولا ينفي ذلك أهمية التعاون وعمقه

أما الانسحاب من القضايا الكبرى المحقة في المنطقة، فهو ليس مناقضًا فقط لتاريخ سنّة لبنان، بل هو أيضًا دعوة لتهميش دورهم، وقطع الطريق لالتقائهم مع المكوّنات الأخرى. وأي مشروع خاصّ لأي طائفة بعيدًا من مصالح المنطقة المشتركة، سيكون مشروع فناء لها وللوطن الذي تعيش فيه، خاصة أن حرب الإبادة الحالية قد لا تستثني بلدًا، حتى ممن وقّع اتفاقيات تسوية، كما يردد وزير التراث اليهودي عميحاي إلياهو علنًا، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش بشكل أقل علانية، لكن بمعنى واضح وهدفٍ بيِّن.

وكان يمكن للقارئ الشك معتبرًا الموقف العدائي تجاه المقاومة هو بسبب المخاوف والتوجه السلبي تجاه تيارات وأحزاب "الإسلام السياسي"، بما فيها الجماعة الإسلامية في لبنان، التي تنخرط في القتال اليوم، لكن الموقف كان عدائيًّا أيضًا من منظمة التحرير خلال حصارها في بيروت. وما كُشف من وثائق بعد سنوات، خصوصًا في كتاب "الاجتياح" لرشيد الخالدي، يؤكد أن المقاومة أيًا كان لونها وتوجهها الأيديولوجي لن تكون بمأمن عن الحصار الرسمي العربي، ونقد كثير من الكتاب؛ كما أن مقاطعة هؤلاء لياسر عرفات أثناء حصاره في المقاطعة بعد انحيازه للمقاومة، دليل آخر على أن هذا الموقف يتجاوز العداء للمقاومة بسبب الأيديولوجيا.

إعلان

إن تأسيس قوات الفجر، الجناح العسكري للجماعة الإسلامية، تزامن مع تأسيس حزب الله عام 1982م، لذلك من الغبن الإيحاء وكأن الانطلاقة العسكرية لقوات الفجر حديثة برغبة من الحزب، ولا ينفي ذلك أهمية التعاون وعمقه، والذي فرضته التقاطعات حول القضية الفلسطينية، وانعكس تقاربًا بين أكبر طائفتين في لبنان (السنة والشيعة)، لم يعرفه هذا البلد منذ عام 2008م، ما ترك أجواء إيجابية على الأوضاع الداخلية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان