لم تكن وجهتنا فيينا، وإنما العاصمة الأوكرانيّة كييف، لكن -ولأنه ليس ثمة طيران مباشر إلى هناك- اقتضت الرحلة أن نتوقف في العاصمة النمساويّة لليلة في رحلة الذهاب، ومثلها في رحلة العودة.
صحيح أن وصولنا كان حوالي الرابعة عصرًا لنغادر مبكرين في الصباح التالي، لكن فصل الشتاء والضباب والغيوم الممطرة، جعلت وقت الوصول كأنه الليل الدامس. كانت إقامتنا في فندق بجوار المطار، لكنني لم أشأ أن أفوّت فرصة زيارة فيينا، ولو لليلة واحدة في عاصمة آل هابسبورغ بتحفها الفنية وقصورها وحدائقها.
موظف الاستقبال بالفندق يشير إلى الحافلة التي تنطلق كل نصف ساعة باتّجاه وسط المدينة، ويشدّد على ضرورة أن أستقلّها بالعودة عند منتصف الليل، وإلّا كان عليّ أن أجد وسيلة نقل أخرى.
في مواجهة دار الأوبرا الشهيرة أقف متمعّنًا في البناء العظيم، غير مبالٍ بحبات المطر الباردة التي تحملها هبات قوية من الرياح.. أضواء الأوبرا ساطعة، ومداخلها مشرعة بانتظار القادمين لحضور واحدة من الحفلات، التي لا تكاد تنقطع على مدار العام.
"موزارت" هذا هو اليوم كَنز فيينا الذي لا ينضب، إذ إن أوبراها الشهيرة لا تنقطع عن تقديم أعماله خلال موسمها السنوي، الذي يكاد لا يتوقف إلا أيامًا، لتكون اللوحات والتذكارات والصور والأقراص التي تحمل تسجيلًا لأعماله الموسيقية مصدر دخل للمدينة ككل
موزارت مات فقيرًا ووحيدًا
"دون جيوفاني" هي الأوبرا التي ستعرض اليوم، لوحة ضخمة لموزارت -الموسيقي العظيم الذي وضع ألحان تلك الأوبرا- تعلو مدخل البناء الذي استغرق تشييده عشر سنوات، ليفتتح عام 1869 بتلك الأوبرا ذاتها، التي ستعرض هذه الليلة .
بيدَ أن عشر سنوات أُخرى استُغرِقت في إعادة ترميم هذا البناء إثر قنبلة أصابته أواخر الحرب العالمية الثانية، ليعاد افتتاحه عام 1955، وقد أعيد على الصورة ذاتها التي كان عليها بكل تفاصيلها، وليكون حفل الافتتاح بأوبرا لـ"موزارت" العظيم أيضًا تيمّنًا بالافتتاح الأول .
يا لسخرية القدر! "موزارت" هو الذي تحتفل به (سالزبورغ) -التي ولد فيها عام 1756- أيما احتفال، وتنافسها فيينا التي شهدت موته في ذلك اليوم الشتوي البارد من عام 1791، بجنازة لم يشهدها سوى خمسة أشخاص!. نعم، مات وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره فقيرًا ووحيدًا، تاركًا وراءه الكثير من أهم الأعمال الموسيقية بمختلف أنواعها، وعملًا جنائزيًا عظيمًا ربما كان يُعدّه لمناسبة وفاته لكنه لم يستطع إكماله، ليدفن على عجل في ضواحي المدينة، وليهرب حتى هؤلاء الخمسة من حدة البرد، تاركين للعمال القائمين على المقبرة مهمة إكمال مراسم دفنه.
"موزارت" هذا هو اليوم كَنز فيينا الذي لا ينضب، إذ إن أوبراها الشهيرة لا تنقطع عن تقديم أعماله خلال موسمها السنوي، الذي يكاد لا يتوقف إلا أيامًا، لتكون اللوحات والتذكارات والصور والأقراص التي تحمل تسجيلًا لأعماله الموسيقية مصدر دخل للمدينة ككل، ولبائعي تلك الأغراض الذين قد يحقق كلٌّ منهم دخلًا يوميًا لم يستطع موزارت أن يحصل عليه حين قدم أعماله في فيينا مدينته الأثيرة، وفي عواصم أوروبية أخرى .
ثلاثة حصارات قام بها العثمانيون محاولين فرض سيطرتهم على المدينة دون أن يكتب لهم الفوز؛ منها اثنان على يد سليمان القانوني، والثالث على يد محمد الرابع، لتنتهي بتراجعهم في معركة فاصلة عام 1683
العثمانيون وحصار فيينا
أستدير متجهًا نحو قصر ال"هوفنبورغ"، أدخل من خلال حدائقه المترامية على وقع ذرات الثلج، التي بدأت تتطاير منذرة بليلة باردة بامتياز.. القصر بقي لسبعة قرون مركز الإمبراطورية، العديد من القصور والمباني والحدائق التي تمت إضافتها خلال كل تلك السنوات، أصبحت تشكل قلب المدينة التاريخي، بعض الموظفين في المباني التاريخية الجميلة، التي تحولت إلى مكاتب إدارية ومراكز مؤتمرات وقاعات محاضرات وأكاديميات فنية ومتاحف، يغادرون أماكن عملهم.. قليلون من أمثالي وقفوا يطيلون النظر إلى واجهات المباني العظيمة، التي تزيد الأضواء المسلطة عليها من جمالها وعظمتها.
إنه قلب تاريخ المدينة بما كانت تمثله كعاصمة للإمبراطورية الجرمانية المقدسة، وكمركز لسلالة آل هابسبورغ، حكّام إمبراطورية النمسا والمجر.. هاربًا من القرون والسنوات يصل إلى مسامعي صخب الضبّاط والقادة، وهم يوجهون جموع الحشود نحو أسوار المدينة التي تتعرّض لحصار الجيوش العثمانية محاولة احتلالها.. ثلاثة حصارات قام بها العثمانيون محاولين فرض سيطرتهم على المدينة دون أن يكتب لهم الفوز؛ منها اثنان على يد سليمان القانوني، والثالث على يد محمد الرابع، لتنتهي بتراجعهم في معركة فاصلة عام 1683، وليكون ذلك نهاية التمدد العثماني، ولتبدأ بعدها إمبراطورية آل عثمان بالانحسار.
ماذا لو؟ سؤال لطالما حفلت به كتب التاريخ!. والسؤال هنا: ماذا لو تم قبول هتلر في أكاديمية الفنون حينها؟ هل كان ذلك سيغيّر وجه التاريخ، ليتاح لذلك الأفاق النمساوي أن يصبح رسامًا مرموقًا بدل التحول إلى عالم السياسة؟
ماذا لو أقنع هتلر لجنة القبول؟
تذكُّر نصيحة موظف الاستقبال في الفندق بضرورة العودة قبل منتصف الليل، يدفعني لإسراع الخطى، ما زال ثمة وقت يسمح بمزيد من التوقف أمام واجهات قصور المدينة العظيمة، التي تحولت إلى وظائف إدارية وفنية؛ مبنى البرلمان.. متحف الفنون الجميلة.. مبنى البلدية.. وقصر إيطالي الطراز مشار إليه بأكاديمية فيينا للفنون الجميلة.
التاريخ يطل برأسه مرة أخرى.. ربما على الدرج الفسيح لهذا البناء توقف الفتى أدولف هتلر، في ذلك اليوم الخريفي من أيام عام 1908، يراجع الرسومات التي سيتقدم فيها لمسابقة الانتساب لهذه الأكاديمية، لمرتين خضع الشاب القادم من مدينة "برادانو" على الحدود الألمانية النمساوية لاختبار الانتساب إلى أكاديمية فيينا، لكنه فشل في المرتين! ليعيش في تلك المدينة فقيرًا ومشردًا يعمل ببيع اللوحات الفنية.
ماذا لو؟ سؤال لطالما حفلت به كتب التاريخ!. والسؤال هنا: ماذا لو تم قبول هتلر في أكاديمية الفنون حينها؟ هل كان ذلك سيغيّر وجه التاريخ، ليتاح لذلك الأفاق النمساوي أن يصبح رسامًا مرموقًا بدل التحول إلى عالم السياسة؟ لا جواب عن هذا السؤال الذي طالما يتبادر إلى أذهاننا عند كل مفصل يحمل حدثًا مهمًا من أحداث التاريخ.
لكن التاريخ الحقيقي يقول لنا إن ذلك الفتى المتشرد، الذي لم يستطع اجتياز امتحان أكاديمية الفنون، عاد بعد ثلاثين عامًا فقط، وبالتحديد في شهر مارس/ آذار عام 1938، ليدخل المدينة التي رفضته فنانًا.. إنما هذه المرة فاتحًا، ويحتشد مئات الآلاف من سكانها ليطل عليهم الزعيم النازي من إحدى شرفات قصر هوفنبورغ ذاته.
أغادر مسرعًا مع مقطوعة الدانوب الأزرق لشتراوس، يؤديها عازف الكمان من إحدى زوايا المطعم الصغير المعتم، متجهًا نحو الدانوب الحقيقي حيث تقع بجانب ضفته محطة الحافلات
الدانوب الأزرق
لن تكتمل الجولة الليلية في العاصمة الإمبراطورية إلا بعشاء في واحد من المطاعم الصغيرة، المعتمة إلا من أضواء الشموع الموزعة هنا وهناك.. عبر الشارع -أو ربما الزقاق- المرصوف بأحجار الأسفلت، الذي تتوزع تلك المطاعم على جانبيه، أحاول أن أختار واحدًا منها لعشاء سريع، قبل اللحاق بحافلة منتصف الليل.
أدخل واحدًا منها، فهو مطعم صغير معتم ذو أقواس حجرية، تتراقص عليها أخيلة الشموع الموزعة على الطاولات وفي الزوايا، أستعين بالنادل لاختيار وجبة من وجبات اللحم التي تشتهر بها المدينة.. أحمر أم أبيض؟ يسألني النادل، ويقصد نوع النبيذ الذي أريده مع الطعام، فالنبيذ هنا ركن أساسي من أركان تلك المطاعم.. متذرعًا بأن عشائي سيكون سريعًا، أقول له إنني سأكتفي بالماء فقط، ذكّرني سؤال النادل ببيت من الشعر لأحمد شوقي في موقف مماثل ربما مر به:
حمراء أو صفراء إن كريمها .. كالغيد كل مليحة بمذاق
أغادر مسرعًا مع مقطوعة الدانوب الأزرق لشتراوس، يؤديها عازف الكمان من إحدى زوايا المطعم الصغير المعتم، متجهًا نحو الدانوب الحقيقي حيث تقع بجانب ضفته محطة الحافلات.
من تراه يفوت زيارة مدينة مثل تلك الفاتنة، حتى ولو في ليلة شتوية قارصة البرد كتلك الليلة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.