شعار قسم مدونات

من قرية "بُعد" إلى مدينة "تاونات"

سلطنة عمان ضيف شرف المعرض لهذا العام (واس).
الوصول إلى خيوط الفكرة يحتاج إلى صبر وتروٍ (واس)

"لو اجتمعنا على كلمة سواء بامتداد عالمنا الإسلامي لأغرقنا إسرائيل" تلك العبارة ما زال صداها يتردد في ذهني منذ أكثر من 30 عامًا، عندما وقف أستاذ الدراسات الاجتماعية المغربي محمد العسري في الفترة بين عام 1993 ـ 1995 في وسط الصفّ وخلفه سبورة خضراء بإطار فضي رسم عليها بالطباشير الأبيض والملون خارطة العالم الإسلامي في مدرسة قريتي الحالمة "بعد" الواقعة في محافظة شمال الشرقية، ومنذ تلك الأيام وقبلها بعقود ما زالت "لو" السد الذي منع مدد إغراق الكيان المغتصب ولو باللعاب المتطاير في هواء المفاوضات، فأُركس وثُبط العالم الإسلامي فلم يخرج عن صمته الذي أُغرق فيه " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدةً ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين".

لطالما شدّني الفضول لبلوغ سطح ذلك الخزان الذي يشكّل منارة مرتفعة للمدرسة.. فها هو يقف شامخًا على الرغم من تبدلات الحياة والظروف، ذات الفضول يساورني مجددًا لأتعقب آثار معلميّ وما هي أوضاعهم بعد أن اشتد العود

ذاك سفر عبر الذاكرة يخلد أناسي لهم من المحاسن الكثير ومن الأفضال الوفير، لذلك كان هذا السفر الروحي يلملم تشظيات الذاكرة تارة ويمتطي صهوة التكنولوجيا تارة أخرى.. فهو يقتفي آثارًا لا تتضح تقاسيم بصماتها، وإنما تتجسد في الولاء والوفاء بمن لهم فضلٌ علينا.. لا ننساه ما حيينا، فحينها لم يكن هذا السفر أضغاث أحلام.. وليس مجرد فكرة عابرة تزاحم الواقع وتنهش ذكريات قديمة.. وليس طيفَ عشق يراودني كلما جنّ ليل العاشقين، بل هو أعمق في التفاصيل وأرشق في التوارد والتدليل.. فهو كخفق العطر عندما تتناثر زخاته في سكون الليل..  وهو كخبِّ مُهرة تستميل فارسها ليطلقها مع عنان الريح.. وهو يقظة قرية "بعد" الساكنة بين جبل (الحلوي) وجبل (الصفراء) عندما ينسلخ الصباح من ليل آمن ساكن فتدب الحركة وتبدأ العجلة في دورانها.

إعلان

ولأنها الفكرة ذاتها التي تزاحم أفكاري كلما أردت الخروج عن مألوف الحياة..  فها هي تُلح عليّ مرارًا وتكرارًا.. تتشكّل بين الحدقة وتكوينات الصورة.. فهي ولاءاتٌ أسجلها لمعلمين تعلّمت على أياديهم كيف أشكّل الحرف ملحمة رمزية تستند إلى الواقع؛ لأبني اللفظ قافية ووزنًا يحرك منابت الشعور للوصول إلى أساتذة الحرف والكلمة.. حتى أقتفي أثرهم وأرمم جسور التواصل معهم.

يتلاقى ولاء البحث للعثور على خيطٍ يقودني إلى أولئك الأساتذة الأجلاء مع ولاء ذلك (الفلج) فلج "أبو خشاشة" الذي يعد أكثر ولاء لأهل قرية (بعـد) فهو ما يزال يمد الأجيال ماءً غدقًا يسقي البلاد والعباد، فخرير مائه يختلط مع عروض وقوافي العلم والمعرفة للأساتذة الذين صالوا وجالوا بين قاعات تلك المدرسة الرابضة على هامة القرية.. وما زال صدى أصواتهم يتردد ثباتًا وقوة كلما مررت في محاذاة السور الشامخ.. وكأنني أرى أصابعهم تتخضب بالطباشير الأبيض والملون كلما وجهت وجهي قبلة المكان والزمان الماضي.. وها هي صورهم تعانق بساتين النخيل التي سجلت حضورهم، وسامرتهم عندما كانت الغربة تنهش ثباتهم.

لطالما شدّني الفضول لبلوغ سطح ذلك الخزان الذي يشكّل منارة مرتفعة للمدرسة.. فها هو يقف شامخًا على الرغم من تبدلات الحياة والظروف، ذات الفضول يساورني مجددًا لأتعقب آثار معلميّ وما هي أوضاعهم بعد أن اشتد العود وبدأت الأقمار تزين الذوائب مني.

من المؤكد أن قرار البحث عن ثلاثة من معلميّ جاؤوا من مدن مختلفة وثقافات متنوعة من المملكة المغربية ليس سهلًا، لأنني أتحدث هنا عن فترة زمنية بعيدة من حيث أدوات التدوين والأرشفة والاحتفاظ بالسجلات اليدوية، وتلك الفترة تبتعد عن يومنا هذا ما يقارب ثلث قرن أو جيلًا كاملًا (30 عامًا) منذ عام 1993م.

الفترة الزمنية بين 1991 ــ 1995 تقع في القرن الـ 20، وهي المرحلة السابعة في مسيرة التعليم في سلطنة عُمان، حيث كانت أبرز ملامحها ترتكز على: الاستمرار في تحقيق التوازنات التعليمية المختلفة: مثل التوازن بين الكم والكيف في التعليم والتوازن بين المراحل التعليمية المختلفة، والتوازن بين التعليم العام وتعليم الكبار، والتوازن بين الإنفاق على التعليم والعائد منه، إلى جانب تطوير كليات المعلمين المتوسطة إلى كليات تربية لمنح درجة البكالوريوس في التخصصات التربوية المختلفة؛ لتحقيق هدف تَعْمين وظائف الهيئات التدريسية المختلفة بالمدارس.

لقد أرجعتني إلى زمن سلطنة عُمان الجميل وناسها الطيبين في "بُعد" و"إبراء" فعلى الرحب والسعة وفي انتظار هاتفكم".. فكان الحديث مع الأستاذ محمد رائعًا بكل المقاييس، وهو كما عهدته في قاعة الصف ثابت متفائل

لذلك ربما سيحالفني الحظ للعثور على خيوط متصلة أو متقطعة للالتقاء مع أساتذتي الثلاثة:

إعلان
  • الأستاذ لحسن الحسن علي، معلم التربية الرياضية.
  • الأستاذ محمد أحمد العسري، معلم الدراسات الاجتماعية.
  • الأستاذ أحمد عبد الرحمن شحيمة، معلم اللغة العربية.

لماذا هؤلاء الثلاثة؟

والإجابة عن هذا التساؤل لا تقاس بالأسباب والمسببات، وإنما هي قُربة روحية وعلاقة تتجدد مع مواقف الحياة بشكل لا إرادي.. لذلك كان من الواجب أن أرد لهم جزءًا من عطائهم الذي ما زال يسري في كل الاتجاهات، ومن أجل وضوح الصورة بإطاراتها وضعتُ جملة من الاحتمالات في مسألة بلوغ المعلومة والوصول إلى الغاية.

أما الاحتمالات الواردة في هذا السفر، فهي: اندثار السجلات التي لم يحالفها التدوين الإلكتروني في تلك الفترة، أو احتمالية أفول نجومهم (الهجرة إلى عوالم البرزخ)، أو هجرتهم لأماكن أكثر اتساعًا، لأسباب متعددة، إلا أنها تبقى احتمالات مرهونة بأحداث تتسق مع الواقع والنبش فيها خير برهان ودليل للوصول إلى تلك الذكريات، أو ربما تقودني الصدف للالتقاء بأبنائهم أو أحد أفراد أسرهم.

لمعرفة المسار بدقة والحصول على معلومات متناثرة كان عليّ القيام بالبحث في كل التفاصيل المدونة والمروية.

فالفكرة على صفيح ساخن.. تثور بين الفينة والأخرى.. وتتراجع برهة عندما تصطدم بالواقع لعدم وجود ماديات تتكئ عليها عملية البحث.. صورة.. عنوان.. رسالة تحتفظ ببعض الرموز التي ربما تؤدي إلى تكوين جزئيات من الصورة العامة.

الوصول إلى خيوط الفكرة يحتاج إلى صبر وتروٍ.. ومع تزاحم الأفكار والسُبل؛ وصلتُ إلى خيطٍ يتصل تارة، وينقطع تارة أخرى إلى أن بلغ صلابته واشتدّ فكان بارقة أمل في رقم الهاتف الذي دوّنه أحد أبناء القرية عندما التقى الأستاذ أحمد العسري في تركيا وتبادلا أرقام التواصل عندها عبَرت رسالتي عبر "الواتساب" فضاءات التكنولوجيا ميممة نحو الأستاذ محمد مذكرًا بمرحلة زمنية عاشها بين بلدة "بُعد" وآفاق التقدم التي تشهده ولاية "إبراء" آنذاك التي عمل فيها في المرحلة الثانوية، فتتأخر الإجابة.. ما يقارب 10 ساعات، ربما لفارق التوقيت أو لظروف الأستاذ محمد.

إعلان

ما أجمل الرد، وما أرقى التوقعات عندما تلامس الواقع، لتنتشي الفكرة وتصل إلى أوجها وتتضح ملامحها في شتاء يلملم ذكريات سُجّلت لتبقى، فيأتي البشير من مدينة تاونات تحفه زخات شوق تتناثر من حال افتراضي إلى واقع محسوس، "أهلًا أخي هلال.. أتمنى أن تكون بألف خير، لقد أرجعتني إلى زمن سلطنة عُمان الجميل وناسها الطيبين في "بُعد" و"إبراء" فعلى الرحب والسعة وفي انتظار هاتفكم".. فكان الحديث مع الأستاذ محمد رائعًا بكل المقاييس، وهو كما عهدته في قاعة الصف ثابت متفائل.. يغلف عباراته بالثناء والشكر على هذا التواصل.

في خضم تلك الانفراجة ما زال البحث عن الأستاذ لحسن الحسن علي، معلم التربية الرياضية، والأستاذ أحمد عبد الرحمن شحيمة، معلم اللغة العربية مستمرًا.. خاصة بعد انقطاع التواصل مع الأستاذ العسري معهما.

ما أحتاجه.. صور وعناوين إقامتهما في بلدهما المغرب..  حتى وإن كانت قديمة علّها توصلني إلى خيوط أخرى.. لأخطط لرحلة واقعية في قادم الأيام علني أصل وأجد أثر خطاهما في ذلك الزحام.. والبحث دون دليل قوي كالبحث عن إبرة في كومة قشّ.

 

لم تتضح معالم المدينة إلا في العشرينيات من القرن الماضي، حينما تعرضت للاحتلال الفرنسي الذي بنى فيها عدة ثكنات عسكرية؛ لإخضاع قبائل المنطقة ومواجهة مختلف المقاومات التي ظهرت، ومن أشهرها مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي

ما هي تاونات؟

يستمر التواصل "التقني" مع الأستاذ محمد العسري، فأسأله عن تاونات سؤال التلميذ لأستاذه فتتغير السبورة الخضراء إلى شاشة رقمية، ويتبدل الطباشير إلى حروف كتبت بخط يده الذي يبرز الخط المغربي بجماله وأناقته المرتبط بالحضارة العربية والإسلامية والفنون المعمارية فكتب لي: "لفظة تاونات، كانت تطلق في الأصل على مدشر صغير يقع في أحد أعلى قممها، وهناك من ذهب إلى أن كلمة تاونات كانت تعني بالأمازيغية مفترق طرق، لكن من المرجح أن تاونات هو تحريف لكلمة "تنولت" بالأمازيغية، ومعناها مجموعة من البيوت الصغيرة المبنية بالقصب أو أغصان الشجر.

أشهر القبائل المكونة لتاونات: "مزيات" "ورغيوة" "والحاية"، وأصول هذه القبائل تعود إلى القبيلة الأم "أوْرَبَة" التي بايعت المولى إدريس الأول مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب سنة 172 هــ والتي انتقلت في القرن العاشر إلى مرتفعات تاونات وتحصنت بها، وعرفت خلال تاريخها مرور الدول التي حكمت المغرب؛ انطلاقًا من المرابطين الذين بنوا فيها قلعة مشهورة هي قلعة "أمركو" ثم الموحدين والمرينيين، وكذلك الدولة السعدية التي أوقفت التوغل العثماني في أقصى غرب المنطقة العربية في معركة مشهورة تعرف بمعركة "وادي اللبن".

إعلان

لم تتضح معالم المدينة إلا في العشرينيات من القرن الماضي، حينما تعرضت للاحتلال الفرنسي الذي بنى فيها عدة ثكنات عسكرية؛ لإخضاع قبائل المنطقة ومواجهة مختلف المقاومات التي ظهرت، ومن أشهرها مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي في منطقة الريف شمال المغرب، ومنذئذ بدأت تنتعش تجاريًا لإيواء الجنود الفرنسيين وعائلاتهم.

تقع مدينة تاونات في جنوب جبال الريف، وكانت مجرد مركز قروي منذ الاستقلال تابع لمدينة فاس التي تبعد عنها بحوالي 80 كلم، ولكنها أصبحت إقليمًا مستقلًا عن فاس سنة 1977م وتتبع إداريًا لجهة فاس مكناس.

أما اقتصاد الإقليم فهو الفلاحة كنشاط أساسي يعتمد على زراعة الأشجار المثمرة مثل التين والزيتون وزراعة الحبوب، وبعض الخضر على ضفاف الأنهار والسدود، علمًا أن تاونات بها أكبر سد مغربي هو سد الوحدة ثالث سد أفريقي بعد النهضة بإثيوبيا والسد العالي بمصر، ومن أشهر أعلام تاونات فاطمة المرنيسي، وهي كاتبة وناشطة حقوقية، وناصر أبو ريطة وزير الخارجية، ورشيد اليزمي مهندس وعالم فيزياء ومخترع بطارية الليثيوم للهاتف النقال، وياسين بونو حارس منتخب المغرب، ومن أهم الأماكن السياحية في تاونات: منبع وشلالات بوعادل، وعيون عنصر بوكنالة.

تلك هي تاونات كما وصفها معلمي، أما قرية "بعد" فخرج منها الفقيه والقاضي والعسكري والمسؤول الحكومي، ومنها خرج كاتب هذه الخربشات، الذي أراد تسجيل سفر متصل مع أساتذة كرام، علّه يوافق الواقع يومًا ما.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان