يعود أمين الجندي المغربي إلى بلده، بعد مشاركته مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، برفقة زوجته الفرنسية ماتيلد، التي تحملت هي الأخرى قساوة العيش في الألزاس المحتلة، ليحط الرحال في ضاحية مدينة مكناس، ويتولى زرع أرضه بشغف عالٍ، في مرحلة كان فيها الفرنسيون هم من يسيطرون على المنطقة.
تستوحي ليلى السليماني، الصحفية والكاتبة ذات الجنسيتين؛ المغربية والفرنسية، روايتها هذه "بلد الآخرين"، من حياة جدتها الفرنسية التي ذهبت للعيش في المغرب عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث تقول: "كان أجدادي من جهة الأم زوجَين مختلطين.. كانت جَدتي من الألزاس، وكان جَدي جنديًّا في الجيش الاستعماري، ولكن الخيال هو الذي اشتغل بعد ذلك".
لا يمكننا أن ننكر دقة السليماني في اختيار العنوان، الذي يتماشى مع فصول الرواية، فشخصياتها جميعها تعيش فعلًا في بلد الآخرين
ستسعى ماتيلد جاهدة للتأقلم مع الحياة الريفية المملة والمتعبة، متكئة على عكاز حبها لأمين، الذي يكون تارة معجبًا بشُقْرتها وقامتها الطويلة، وتارة محرجًا من كونها ليست مسلمة وفرنسية، وهذا بعد فترة قصيرة قضتها معه في منزل عائلته المكونة من أخيه عمر، الذي لا يخرج عن خط المقاومة، فيمثل صورة من صور الكفاح الوطني ضد الاستعمار، بالإضافة إلى أمه "مي لالة" القابعة طوال اليوم في البيت مع حرصها الشديد على أدق تفاصيله، ثم شقيقته سلمى، التي تطرّقت السليماني من خلال شخصيتها إلى الحرية، التي يكاد مفهومها هنا يكون مشوهًا بالنسبة لي.
فهذا المفهوم يتجلى في انغماس أخت أمين في ملذات الحياة ومتعها المحرمة؛ ولم يجد أمين حلًا سوى تزويجها غصبًا من صديقه مراد.. هذا الأخير مثّل في الرواية مأساة الشبان المغاربة الذين تم تجنيدهم من طرف سلطات الاستعمار بالقوة في جيشها، فزجت بهم في حروبها، ليُقتل عدد منهم، ويعود آخرون إلى ديارهم متكبدين صدمة الأهوال التي اختبروها.
السليماني، الحائزة جائزة غونكور الأدبية المرموقة في فرنسا عام 2016، والفائزة بالمرتبة الثانية في قائمة أكثر 5 شخصيات فرنسية تأثيرًا لعام 2018، حسب الاستفتاء السنوي الذي تجريه مجلة vanity Fair""، قاربت في روايتها إشكالية الهوية والانتماء، عبر أمين الذي يظل متجاذبًا بين بلده الذي لا ينتسب له وطنيًا، والفرنسيين الذين سيكتسب مع مرور الوقت نمط عيشهم، وبين عائلته الأصيلة التي تقيم في حي شعبي عتيق، خصوصًا أمه الذي صورتها الكاتبة كمتخلفة غارقة في الجهل، وأبنائه الذين يدرسون في مدرسة فرنسية ويتبعون دين أمّهم.
"ولد أمين وسط هؤلاء الرجال، ووسط هذا الشعب، لكنه لم يفتخر قط بذلك الانتماء. على العكس، سعى دائمًا إلى طمأنة الأوروبيين الذين يلقاهم، حاول أن يقنعهم أنه هو مختلف، ليس خبيثًا ولا قدريًّا ولا كسلانَ، مثلما يحب الفرنسيون أن ينعتوا مغاربتهم".
لا يمكن لأي قارئ لهذه الرواية أن ينكر خلوّها من منعطفات مفاجئة، تجذب انتباهه وتشد تركيزه، بالإضافة إلى الخاتمة السريعة وغير المقنعة
لا يمكننا أن ننكر دقة السليماني في اختيار العنوان، الذي يتماشى مع فصول الرواية، فشخصياتها جميعها تعيش فعلًا في بلد الآخرين.. وهم المستعمرون الذين استولوا على بلد لا يملكون أدنى حق فيه، والأجانب الذين اختاروا الاستقرار في المغرب لأسباب متعددة، مثل الطبيب الهنغاري دراغان الذي هرب من تنامي الفاشية في أوروبا، ثم أخيرًا أبناء هذا البلد الذين تمكن الاستعمار من جعْلهم يشعرون أنهم أجانب أيضًا.
وفي الصدد ذاته، ذكرت السليماني في إحدى مقابلاتها الصحفية أنه "في المغرب يقال لي إنني فرنسية وغربية بشكل كبير، لذا فإنني لا أمثّل المغرب؛ وفي فرنسا أحيانًا يقال لي إنني لست فرنسية حقيقية، لأن لدي جذورًا مغربية، لذا أنا أفهم ماذا يعني العيش في بلد الآخرين".
ولا يمكن لأي قارئ لهذه الرواية أن ينكر خلوّها من منعطفات مفاجئة، تجذب انتباهه وتشد تركيزه، بالإضافة إلى الخاتمة السريعة وغير المقنعة، التي أنهت السليماني بها الجزء الأوّل من الثلاثية الروائية؛ فهناك ارتباك ملحوظ في السطور الأخيرة. إلى جانب ذلك، خصصت الكاتبة الصفحة الأخيرة من الرواية لشكر عدد من المؤرخين والباحثين المغاربة، الذين قالت إنهم أمدّوها بمعلومات تاريخية أعانتها في تأليف الرواية.
لكن مما لا شكّ فيه، أنّ كل قارئ مدقق في أحداثها سيتساءل باندهاش: أين يمكنه أن يلمس البحث التاريخي الذي تحدثت عنه؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.