بين دموع الأطفال وبأس المقاومين، بين ركام المنازل وقذيفة الياسين، بين أشلاء الشهداء والعبوات الناسفة، بين حدة العوز والكمائن المحكمة، بين صرخات القلوب المنفطرة وأنين الدبابات المحترقة، صارت "غزة" مصطلحًا فضفاضًا يحتمل الكثير من المعاني والتأويلات، لا اسمًا لقطاع بمساحة جغرافية وحدود على الخريطة فقط.
صار جزءًا من حياتنا اليومية أن نشاهد على الأقل مقطعين مصورين في قطاع غزة؛ أحدهما بجودة عالية ودقة تعري كل مشاعر الخوف والخذلان في الأحداق، والهدف غالبًا في مثل هذه المقاطع هو إنسان يحكي نصيبه من الحرب، أو جثث غارقة في الدم والدخان
لا شك في أنّ كل مسلم غيور على دينه، كل عربي يعتز بقوميته، كل إنسان سويّ مناصر للحق كاره للظلم، يمرّ في هذه الأيام وقبلها بمعضلة شعورية، تتمثل في تأرجح قلبه ما بين التعاطف مع ضحايا الحرب، والتفاعل مع منجزات المقاومة في تكديس دبابات المحتل بعضها فوق بعض، ولعلّ هذا التأرجح هو طوق النجاة الوحيد المحيط بأفئدتنا في ظل تخبط أمواج الشعور في بحر هذه المعضلة.
هي صورة كاملة بشقين لا تناقض فيهما، يكمل أحدهما الآخر، فمن مال قلبه وعقله تجاه أحدهما متجاهلًا الشق الآخر رأى نصف الصورة فقط، وفي نصف الصورة -أيًّا كان- نصف الحقيقة والحكم والموقف! ولا مستفيد من كل هذا القصور في المشهد العام لهذه الحرب أكثر من قوى الاحتلال الغاشم.
صار جزءًا من حياتنا اليومية أن نشاهد على الأقل مقطعين مصورين في قطاع غزة؛ أحدهما بجودة عالية ودقة تعري كل مشاعر الخوف والخذلان في الأحداق، والهدف غالبًا في مثل هذه المقاطع هو إنسان يحكي نصيبه من الحرب، أو جثث غارقة في الدم والدخان، أو مبانٍ ابتلعها حطامها وغبارها.
والمقطع الآخر بجودة متوسطة أو أقل، ودقة تخفي كل الأفكار الانهزامية ومرادفات "الاستسلام" في وعي مُشاهدها، والهدف غالبًا في مثل هذه المقاطع شاب ملثم بلا درع ولا خوذة، ينسل بسرعة الصوت لقنص دبابة "ميركافا" ملفوفة بأطنان من الحديد، ليزرع تحتها عبوة صغيرة، ثم يعود مكبرًا مع صوت الانفجار، أو مشهد قنص أو استهداف قوة راجلة، أو كمائن محكمة، أو أي مشهد لمقارعة قوة أو كتيبة والتغلب عليها.
المقاوم اليوم كان طفلًا بالأمس، رأى بأمّ عينه استشهاد أمه أو أبيه أو أحد إخوته، أو حتى أفراد عائلته كلهم! فما زاده ذلك إلا حقًا فوق حقه في رد العدوان ومقارعة الظلام
مرة أخرى؛ هي صورة كاملة بشقين لا تناقض فيهما، من أمعن في أحدهما وتجاهل الآخر ضيع إما نصرة الحق أو دحض الباطل، ولعل أفضل تجليات هذه الصورة الكاملة تظهر في كلمات من يعيش هذه الحرب.. "فدى المقاومة".. "الله ينصر المقاومة".. وما يشبهها من عبارات دعم للمقاومة، لا تزال تخرج من فم أبٍ فقد للتو أحد أبنائه، أو امرأة واقفة على ركام منزلها، أو مسنٍّ يحمل ما يفوقه وزنًا أثناء نزوحه.
ومن جهة أخرى، لا ينفك "أبو عبيدة"، الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، يذكر في كل خطاب له معاناة أبناء شعبه، ويوجِّه إلى عوالم الأرض عامة، وإلى العالمين العربي والإسلامي خاصة، الرسائل التي تحث على إغاثة الضحايا وتقديم المساعدات، ومحاولة كبح جماح هذا الاحتلال المسعور.
فما تشكلت هذه الصورة كلها إلا منهم وبهم، شكّلها صمودهم وبسالتهم، خوفهم وإقدامهم، دموع جزعهم وانتصاراتهم، فالمقاوم اليوم كان طفلًا بالأمس، رأى بأمّ عينه استشهاد أمه أو أبيه أو أحد إخوته، أو حتى أفراد عائلته كلهم! فما زاده ذلك إلا حقًا فوق حقه في رد العدوان ومقارعة الظلام.. هم كلهم الضحية، والجاني الوحيد هو الاحتلال السافر منذ بدايته وحتى زواله بإذنٍ من الله، ومعه كل من عاونه على الإثم والعدوان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.