شعار قسم مدونات

البحث عن نزار قباني!

مدونات - نزار قباني
الشاعر والأديب نزار قباني (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان من أماني مرحلة الصبا وبداية الشباب لقاء شخصيات لها حضور على المستوى الشعري والأدبي والإعلامي، وكان نزار قباني في مقدمة تلك الشخصيات.. كيف لا وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس حينها؟

لكن كيف السبيل ونزار بين مغتربَيه، البيروتي واللندني، أما تواجده في دمشق فهو لأوقات محدودة، وفي مناسبات متباعدة؟ لكن، أليس للصدفة أن تلعب دورها، كما فعلت مع صديق وضعته في مواجهة شاعرنا في مكتبة دمشقيّة، ولو للحظات، فكان حدثًا نستعيده كلما أتى ذكر نزار أو حضرت قصيدة من قصائده؟

جولتنا في الصالحية لا تنتهي بالمصادفة السعيدة المنشودة، وإنما بالوقوف أمام بائع الكتب والصحف على زاوية شارع العابد، لنشتري منه كتابًا من كتبه اسمه "يوميات مدينة كان اسمها بيروت"

من الصالحية نحو ساحة النجمة

عرفتني شوارع وأزقة دمشق في سنوات أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات أثناء الدراسة الجامعية، أكثر مما عرفتني قاعات ومدرجات جامعتها، وكانت مطاردة الصدفة التي قد تضعني في مواجهة مع نزار واحدة من أغراض تلك المسيرات والجولات، الصالحية كانت دومًا نقطة البدء لتلك المسيرات والجولات، فربما جاء شاعرنا لاسترجاع ذلك الزمن السمح:

يا زمانًا في الصالحية سمحًا .. أين مني الغِوى وأين الفتون

يا زواريب حارتي خبئيني .. بين جفنيك فالزمان ضنين

لكن جولتنا في الصالحية لا تنتهي بالمصادفة السعيدة المنشودة، وإنّما بالوقوف أمام بائع الكتب والصحف على زاوية شارع العابد، لنشتري منه كتابًا من كتبه اسمه "يوميات مدينة كان اسمها بيروت"، أو نسخة مصورة من قصيدة بلقيس، أو ديوانًا صغيرًا من دواوينه اسمه "مائة قصيدة حب".. ولنحقق اللقاء مع نزار، ولو عبر تلك المطبوعات والقصائد التي نحفظها عن ظهر قلب، نتوجه يسارًا باتجاه ساحة النجمة.. لمَ لا؟ ألا يمكن أن يكون شاعرنا جاء للاطمئنان على زهرات أمه ناصعة البياض:

إعلان

سلاماتٌ سلاماتٌ

إلى بيت سقانا الحب والرحمة

إلى زهراتك البيضاء

فرحة ساحة النجمة

إلى تختي .. إلى كتبي

إلى أطفال حارتنا

وحيطانٍ ملأناها بفوضى من كتابتنا

لا، لم تأتِ المصادفة بعد، إذًا لنغير الاتجاه نحو دمشق القديمة، وبالتحديد مئذنة الشحم حيث منزل الطفولة والصبا، أليس هو القائل "ولدت في قارورة عطر"؟. أو:

والياسمينة رصعت بنجومها .. والبركة الذهبية الإنشاد

أو: للياسمين حقوق في منازلنا .. وقطة البيت تغفو حيث ترتاح

 

تنتهي رحلة حي مئذنة الشحم والوقوف أمام قارورة العطر، ويغيب عبق روائح النعناع والزعتر والكمون والقرفة في البزورية، دون تحقُّق تلك المصادفة السعيدة طاوية معها مسيرات ورحلات وسنوات حملتنا بعيدًا عبر الزمان والمكان

قارورة العطر

أقف في مواجهة مدخل ذلك البيت، لعل شاعرنا جاء لزيارة أمّ المعتز، وقد يخرج في أية لحظة، ربما هو مشغول بالتعرف على أولاد قطة الدار السبعة الذين وُلدوا أثناء سفره، أو يساعد أمّ المعتز بإعداد مربى النارنج.. تطول وقفتنا دون أن يتحقق ذلك الرجاء بأن يخرج شاعرنا من ذلك الباب الصغير، الذي ينفتح على أشجار وطيور ونافورة ماء، لا تكفّ عن قرقرة مائها.

نحوّل السير نحو البزورية، ربما جاء شاعرنا ليستعيد خليط الروائح التي تنقلك عبر الزمان والمكان، أو ربما ليعرج على معمل الحلويات الذي يملكه والده علّه يحظى بـ"كمشة" أخرى من "الملبّس"، وبعض قطع من راحة الحلقوم.

تنتهي رحلة حي مئذنة الشحم والوقوف أمام قارورة العطر، ويغيب عبق روائح النعناع والزعتر والكمون والقرفة في البزورية، دون تحقُّق تلك المصادفة السعيدة طاوية معها مسيرات ورحلات وسنوات حملتنا بعيدًا عبر الزمان والمكان.

في زيارة دمشقية بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد في أواخر أبريل/ نيسان 1998، تطالعك ورقة النعي التي تعلن وفاة الشاعر الكبير، وموعد احتفالية دفنه بدمشق في مقبرة الباب الصغير التاريخية، ومعها ينتهي الأمل بتلك المصادفة التي لم يسمح الزمان بها، لكن لا تنتهي معها رحلة تذوق الإبداع الذي تركه الشاعر، والذي ما زال يدهشنا رغم معايشته لما يقرب من خمسين عامًا.. نستعير من نزار بتصرف:

إعلان

خمسون عامًا يا كتاب الهوى .. ولم نزل في الصفحة الأولى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان