ربما تسبّب فوز مرشح الإصلاحيين "بزشكيان" بمنصب الرئاسة في إيران في صدمة داخل صفوف المحافظين الذين سيطروا على منصب الرئيس لقرابة عقدَين من الزمن؛ لكنْ في ذات الوقت أظهر غالبية الشعب الإيراني ارتياحًا لانتصار بزشكيان، إذ إن الاقتصاد يعاني من تدهور ملموس؛ نتيجة سياسات المحافظين إثر العقوبات الأميركية والأوروبية التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ناهيك عن تخوّفٍ سيطر على قطاع كبير من الإيرانيين من فوز مرشح المحافظين، الذي صرّح في مناظرات مع بزشكيان بأنه سيواصل المسيرة السياسية لرفاقه السابقين بالعقلية نفسها؛ لذلك سنتعرف معًا في الأسطر القادمة على التغييرات التي يُتوقع حدوثها في المشهد الإيرانيّ.
أظهرت الحملات الدعائيّة للمرشحَيْن؛ الإصلاحي والمحافظ، أنّهما يحملان فكرين مختلفين يكادان يكونان متناقضين في عديد من الملفّات الداخلية والخارجية، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين للتصويت لصالح الإصلاحي على حساب خَصمه
لماذا بزشكيان؟
بعد مضي أكثر من 19 عامًا على مغادرة "محمد خاتمي"، آخر رئيس إصلاحي، القصرَ الرئاسي في طهران، عاد الإصلاحيون مجددًا إلى سدّة الحكم من بوابة الانتخابات الرئاسية المبكرة بدورتها الـ14، التي فاز بها السياسي "مسعود بزشكيان"، استشاري جراحة القلب والصدر.
وبعد سجال احتدم بين الإصلاحيين والمحافظين طوال 25 يومًا، خلال فترتي الحملات الدعائية قبل الجولتين: الأولى والثانية، أعلنت وزارة الداخلية الإيرانية فوزَ الإصلاحي بزشكيان بحصوله على أغلبية أصوات الناخبين متفوّقًا على المرشح المحافظ "سعيد جليلي"، في حين بلغت نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات 49.8%، وهي نسبة مشاركة أعلى من الجولة الأولى، وأعلى أيضًا من نسبة المشاركة في انتخابات 2021 التي فاز فيها الرئيس الراحل "إبراهيم رئيسي".
وأظهرت الحملات الدعائية للمرشحَيْن: الإصلاحي والمحافظ، وخاصة المناظرات الثنائية بينهما، أنهما يحملان فكرين مختلفين يكادان يكونان متناقضين في عديد من الملفات الداخلية والخارجية، وهو ما دفع الكثيرين للتصويت لصالح المرشح الإصلاحي على حساب خَصمه المحافظ، وهو الأمر ذاته الذي طرح تساؤلات عن تأثير فوز بزشكيان على تلك الملفات.
تصدُّر بزشكيان نتائج الجولة الأولى من هذه الانتخابات، أحيا الأمل لدى قطاعات واسعة من الشعب الإيراني الساعية للتغيير، ودفعها للمشاركة في الجولة الثانية، بعد انخفاض المشاركة في الجولة الأولى
سرّ عودة الإصلاحيين
نجح الإصلاحيون في جذب بعض ناخبي ما يُسمى بـ"الكتلة الرمادية" لصالحِهم، وهي الكتلة التي لم تشارك في الجولة الأولى من الانتخابات، وكانت تقدر بحوالي 36 مليون صوت؛ لتضيف إلى عشرة ملايين صوت حصل عليها بزشكيان في الجولة الأولى، حوالي ستة ملايين صوت جديد، ليفوز في النهاية بنسبة تقدر بحوالي 55% من إجمالي المشاركين في الانتخابات.
ولا شك في أن الدعم غير المسبوق الذي حصل عليه بزشكيان من رموز التيارَين: الإصلاحي والمعتدل، أدّى دورًا حاسمًا في فوزه؛ إذ أبدى الرئيس الإصلاحي السابق "خاتمي" ووزير الخارجية الإيراني السابق "جواد ظريف" دعمهما لبزشكيان منذ البداية، كما انضم لدعمه الرئيس الإيراني السابق "حسن روحاني" ورئيس البرلمان السابق "مهدي كروبي" وغيرهم من الشخصيات المؤثرة.
كما أن تصدُّر بزشكيان نتائج الجولة الأولى من هذه الانتخابات، أحيا الأمل لدى قطاعات واسعة من الشعب الإيراني الساعية للتغيير، ودفعها للمشاركة في الجولة الثانية، بعد انخفاض المشاركة في الجولة الأولى، ربما لأسباب تتعلق بتوهم هذه القطاعات أن الفائز في الانتخابات سيكون هو المرشح المحافظ "جليلي"؛ ومن ثم استبعاد أية محاولة للتغيير قد تحدث.
هذا بجانب أن صعود بزشكيان جاء نتيجة عاملين رئيسيين ضمن المعادلة السياسية بالبلاد؛ العامل الأول يتمثل في حاجة النظام الديني لوجه إصلاحي في المرحلة المقبلة، لأنه يعتقد أن من المحتمل جدًا فوز الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" في الانتخابات الأميركية بعد أشهر قليلة، أما العامل الثاني فهو مرتبط بالوضع الداخلي لإيران الذي يوشك على الانفجار؛ بسبب تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
من المرجح أن يعمل بزشكيان على تشكيل حكومة من التكنوقراط، لا تمثل أطيافًا سياسية بعينها، استنادًا إلى تصريحه بأنه "يجب تعيين خبراء في الحكومة"، وانتقاده للمحافظين بأنهم استبعدوا الأكفاء من تولي مناصب مهمة
السياسة الداخلية
بالنظر إلى التصريحات التي أدلى بها بزشكيان وقادة حملته الانتخابية، يمكن استشراف السياسات المحتملة في الداخل الإيراني، وذلك على النّحو التالي:
- التمسك بمبادئ وقيم النظام الإيراني:
حرص بزشكيان على إلقاء الخطاب الأول له في ضريح "الخميني"، مؤسس الجمهورية الإسلامية، كما وصف بزشكيان خلال كلمته خامنئي بـ"القيادة الحكيمة"، في رسائل تُقرأ على أن بزشكيان رئيس إصلاحي ينتمي للنظام في إيران ولا يرفضه، وهذا بخلاف بعض تيارات المعارضة الإيرانية، ولاسيما المعارضة في الخارج من أنصار "حركة مجاهدي خلق" وأنصار الملكية، ممن يرفضون الثورة والنظام القائم.
- اختيار حكومة تكنوقراط:
صرح الرئيس الإيراني المنتخب في خطابه الأول بأنه يمد يده للجميع من أجل مصلحة البلاد، كما أقر بأن "الطريق صعب" ولا يمكن تجاوزه إلا بتعاضد الجميع، وكان استقبال المرشح الخاسر "جليلي" تأكيدًا على هذا المعنى.
ومن المرجح أن يعمل بزشكيان على تشكيل حكومة من التكنوقراط، لا تمثل أطيافًا سياسية بعينها، استنادًا إلى تصريحه بأنه "يجب تعيين خبراء في الحكومة"، وانتقاده للمحافظين بأنهم استبعدوا الأكفاء من تولي مناصب مهمة، وتأكيده المتكرر على ضرورة أن ينصب اهتمام الحكومة الجديدة على ملفات الاقتصاد، والسياسة الخارجية، والأمن القومي.
- إفساح المجال لمزيد من الحريات:
أكد بزشكيان خلال المناظرات التلفزيونية على ضرورة إيجاد حل دائم لقضية إلزامية الحجاب، منتقدًا الممارسات التي وصفها بـ"القمعية" لشرطة الأخلاق ضد النساء، كما انتقد بزشكيان ممارسات الحكومة بقمع المتظاهرين في احتجاجات "الحركة الخضراء" عام 2009، وتعهد بضمان منع الرقابة وتقييد الإنترنت، وتمثيل حكومي أوسع نطاقًا للنساء والأقليات القومية والمذهبية، خصوصًا الأكراد والبلوش، علمًا بأن بزشكيان نفسه ينتمي لأب أذري وأم كردية.
من المرجح أن يستمر مسلسل تحسين العلاقات بين إيران ودول المنطقة، وهو الذي أخذ زخمًا واضحًا خلال فترة رئيسي، بتوقيع اتفاق عودة العلاقات مع السعودية في 2023
السياسة الخارجية
يمكن استشراف مستقبل السياسة الخارجية لبزشكيان، في ضوء ما صرح به خلال حملته الانتخابية، وذلك على النحو التالي:
- محاولة الانفتاح على الغرب:
دعا بزشكيان خلال مناظراته التلفزيونية إلى الانفتاح على الغرب، مدافعًا عن الاتفاق النووي الذي وقّعته إيران في 2015، ورأى أن هذا الاتّفاق من مصلحة طهران، ويعتقد بزشكيان بضرورة الدخول في مفاوضات مع الغرب؛ بغية رفع العقوبات التي رأى أنها تسبَّبت في الكثير من الخسائر لإيران، كما يطالب بالانضمام لمجموعة العمل المالي (FATF)، والتي سبّب عدم انضمام طهران لها في حرمانها من الاندماج في النظام المصرفي العالميّ.
- استكمال سياسة "التوجّه شرقًا":
يعتقد بزشكيان بضرورة توطيد علاقة إيران مع دول الشرق، معتبرًا أن ذلك سيمنح طهران وضعًا قويًا في المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، والملاحظ أيضًا أن النظام الإيراني يرى في سياسة "الاتجاه شرقًا" – والتي تعني بشكل أساسي توطيد العلاقات مع القوى غير الغربية مثل: روسيا والصين والقوى الأخرى الصاعدة سواء في آسيا أو غيرها – بديلًا إستراتيجيًا له عن الاعتماد في علاقته الخارجية على الغرب، في ضوء الملفات المعقدة التي تجمعه بالأخير.
- الاستمرار في تحسين العلاقات مع دول المنطقة:
من المرجح أن يستمر مسلسل تحسين العلاقات بين إيران ودول المنطقة، وهو الذي أخذ زخمًا واضحًا خلال فترة رئيسي، بتوقيع اتفاق عودة العلاقات مع السعودية في 2023، واستكمال ذلك بمساعي وجهود تحسين العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، والدول العربية الأخرى، فضلًا عن تركيا وباكستان، ومن اللافت أن بزشكيان تلقى رسائل تهنئة من قادة وزعماء ورؤساء أغلب دول المنطقة، وهو ما يعكس تطلع هذه الدول للتعاون معه.
صعود بزشكيان لا يمثل خروجًا عن النص الإيراني في التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية، والتي تخضع جميعها للتوجهات التي يرسمها المرشد الأعلى والمؤسسات التابعة له
كلمة أخيرة
إنَّ فوز بزشكيان قد يمثل حالة من تبديل الأدوار داخل النظام الإيراني، الذي يحاول جسر الهوّة المتزايدة بينه وبين الشارع الغاضب، ومع ذلك فإن صعود بزشكيان لا يمثل خروجًا عن النص الإيراني في التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية، والتي تخضع جميعها للتوجهات التي يرسمها المرشد الأعلى والمؤسسات التابعة له، في إطار "الثابت" في السياسة الإيرانية، إلا أنه قد يكون للرئيس المنتخب قدر من الحركة لإدارة تلك الملفات في إطار "المتغير" في السياسة الإيرانية، يسمح له بترك بصمة خاصة، وإحداث تغييرات "مصرح بها" في الداخل بشأن الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك إدارة العلاقات مع الخارج.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.