شعار قسم مدونات

"الواقعية التقدمية" انتصرت في بريطانيا.. فهل تستمر؟

رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وزوجته فيكتوريا ستارمر (رويترز)

حقّق حزب العمال في المملكة المتحدة فوزًا كبيرًا في انتخابات يوم الخميس، 4 يوليو/ تموز الجاري، لتتولى السلطة حكومة عمالية بعد 14 عامًا من حكم المحافظين. وكان حزب العمال قد تعهّد بانتهاج مبدأ "الواقعية التقدمية" في سياسته الخارجية، لافتًا إلى أنّ عالم اليوم أكثر تقلّبًا، والأكيد أنه -بحسب الفائز كير ستارمر- "ليس كما نريده أن يكون".

ولو تذكّر ستارمر شعر المتنبي "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" لما تردّد في قوله؛ فالعالم اليوم لا يشبه ذلك الذي تركه آخر محافظ غادر 10 داونينغ ستريت مقر الحكومة البريطانية، إذ يكفي إصرار الحلف الصيني الروسي على تغيير شكل النظام العالمي، ودحر الهيمنة الغربية التي تشكّل بريطانيا جزءًا منها، ليحدث كل هذا التغيير.

إرث ثقيل تُرك لستارمر من قبل حزب المحافظين، الذي فشل في معالجة الأزمات الداخليّة، كما الخارجية. لهذا انتخب البريطانيون من هو -بحسب رأيهم- قادر على أن يخطو ولو خطوة واحدة نحو الإصلاح

قضايا كثيرة تلفّ العالم، وتعقيدات تنتظر ستارمر، الذي سيتسلم منصبه في وقت قريب. وتأتي الحرب في أوكرانيا، والتخوّف الأوروبي من أن تتخطى أطماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عتبة كييف، على رأس الأولويات التي يجب على حكومته معالجتها بـ "واقعية وتقدمية"، إضافة إلى التهديد الصيني، وعلاقة بلاده مع الولايات المتحدة، ومصير حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي سيحضر ستارمر اجتماعَه الذي سيعقد في واشنطن؛ بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين في يوليو/ تموز الجاري.

إرث ثقيل تُرك لستارمر من قبل حزب المحافظين، الذي فشل في معالجة الأزمات الداخليّة، كما الخارجية. لهذا انتخب البريطانيون من هو -بحسب رأيهم- قادر على أن يخطو ولو خطوة واحدة نحو الإصلاح، بعيدًا عن طموحاتهم بإعادة بريطانيا إلى الساحة الدولية. فهل ستكون "الواقعية التقدمية" فعلًا هي الحلّ المنتظر لبريطانيا، أم أنها لن تتخطى فكرة شعارات انتخابية، تزول حين تبدأ ممارسة السلطة والاصطدام بواقع صعب؟

"الواقعية التقدمية" هي نموذج للسياسة الخارجية الأميركية، اشتهرت إلى حدّ كبير من قبل المفكر الأميركي روبرت رايت في عام 2006، وتركز على تحقيق نتائج قابلة للقياس، في السعي لتحقيق أهداف مدعومة على نطاق واسع، حيث إنها تدعم مؤسسات دولية أقوى، وترتكز على التجارة الحرة، مع حماية المصالح الوطنية لبريطانيا العظمى.

إعلان

تقف معتقدات الواقعيين التقدميين في تناقض صارخ مع المحافظين، حيث يسلّط الواقعيون التقدميون الضوءَ على أهمية المشاركة القوية في الأمم المتحدة، والالتزام بالقانون الدولي. وهم يشعرون أن الترابط الاقتصادي، والبيئة والأمن العالمي، إن تحقق عبر المؤسسات الدولية، فسيخدم المصلحة الوطنية البريطانية حتمًا. أما على صعيد الصدام العسكري، فترى الواقعية أنها بحاجة إلى تحويل القوة العسكرية الصارمة، والقوة الجاذبة الناعمة إلى قوة ذكية، خدمةً لمصالحها، ودون تكلفة حرب باهظة.

 

بشأن غزة، وقف المحافظون لجانب إسرائيل، حتى في رفض قرارات محكمة العدل الدولية التي طالب فيها المدعي العام بإصدار مذكرات اعتقال بحقّ نتنياهو وشخصيات إسرائيلية أخرى

اصطدمت الواقعية التقدمية بأزمة أوكرانيا، وما جاءت محاولة إظهاره بتحويل القوة العسكرية إلى ذكية، تعثّر عند أول مفترق طرق في القضايا الدولية. لم يتردّد ستارمر في الإجابة عن سؤال صحفي، حول إذا ما كان حزبه سيستمرّ في دعمه لأوكرانيا، حيث كان جوابه بالتأكيد على ذلك، لا بل أبعد من ذلك، إذ من المتوقع أن يلتقي ستارمر، الرئيسَ الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سريعًا لتأكيد وقوفه إلى جانب دولته في وجه روسيا، التي وصفها بـ "المعتدي على أوكرانيا".

الواقعية قد تفيد ستارمر في التلاقي مع التطورات الانتخابية التي اجتاحت الدول الأوروبية بوصول اليمين المتطرف إلى الحكم في الاتحاد الأوروبي، والأطروحات التي تلتقي مع مصالح بريطانية على رأسها الأمن الاجتماعي للقارة. هذا ما أكّد عليه ستارمر بقوله إنه "سيتعاون مع أي حكومة في أوروبا، وذلك في سبيل تأمين مصالح الجميع، بتحديد الإجراءات التي تدعم الاتفاقية الأمنية التي تريدها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما فيما يتعلّق بالتعامل مع عصابات التهريب".

يحمل ستارمر الكثيرَ من العناوين التي ترتبط بكيفية مواجهة التحديات والأزمات التي تنعكس سلبًا على الواقع العام في البلاد؛ فلديه على ما يبدو أولوية إعادة الرفاه والنمو للمملكة المتحدة، لكنّ هذا لا يمكن أن يكون من خلال "فكّ الارتباط" مع السياسة الخارجية للمملكة؛ لأنّ الأمورَ دوليًا تتدحرج حتمًا نحو صدام بين الدول. فالأزمات الدوليّة باتت تزداد تعقيدًا، والكثير منها لا يعالج من خلال النهج الواقعيّ، بل التحايليّ لما فيه مصلحة بريطانيا.

بشأن الأزمة المستمرة في غزة، وقف المحافظون إلى جانب إسرائيل، حتى في رفض قرارات محكمة العدل الدولية التي طالب فيها المدعي العام بإصدار مذكرات اعتقال بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وشخصيات إسرائيلية أخرى.

قمّة "شنغهاي" لا تقلّ خطورة عن مجموعة "البريكس"، فالاثنتان -إضافة إلى منظمات أخرى- خارج سيطرة الغرب الأنغلوساكسوني، لا بل إنها تشكّل منافسة للمؤسسات التي وضعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية

سيواجه ستارمر تحديًا كبيرًا في هذا الشأن، فحتى لو شاركت حرب غزة في إسقاط المحافظين، فسيبقى التوجه العام في بريطانيا إلى جانب إسرائيل، ذلك الكيان الذي صنعته دوائر القرار في المملكة، ولهذا لا يرتبط موقف المملكة من القضية والمحكمة الدولية بمن فاز، بقدر ما يتعلّق بالسياسة الكبرى للدولة.

لا تستطيع بريطانيا الخروج من تحالفها مع واشنطن، فـ "الأنغلوساكسونية" تعتبر اليوم على رأس الاستهداف الدولي لها. وما انتصار القوميات في العالم إلا إسناد لسياسة الصين وروسيا في "خربطة" النظام العالمي، لإعادة رسمه ووضع مؤسساته من جديد.

إعلان

فقمّة "شنغهاي" لا تقلّ خطورة عن مجموعة "البريكس"، فالاثنتان -إضافة إلى منظمات أخرى- خارج سيطرة الغرب الأنغلوساكسوني، لا بل إنها تشكّل منافسة حقيقية للمؤسسات التي وضعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ بهدف ضبط شؤون العالم وَفق حسابات مصالح أميركا وبريطانيا.

رغم نوايا ستارمر إحداثَ التغيير، ومع السعي لتحقيق مصالح بلاده، فإنّه لن يستطيع الخروج من العباءة الأميركية.. لهذا ستبقى "الواقعية التقدمية" منهجًا يستخدم "غبّ الطلب"، أي سيحاكي به مصالح بلاده عندما تحتاج إلى واقعية، وإن كان الأمر يتعدّى الواقعية فستكون بريطانيا في جهوزية حقيقية لأي حربٍ كبرى قد تُفرض عليها، لاسيما أنها تمثّل اليوم رأس الحربة في مواجهة روسيا في حربها على أوكرانيا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان