تحمل الذاكرة البعيدة إرثًا عريقًا من الحضور والعلاقات العربية الأفريقية التي تسائل الحاضر وتطرح إمكانات تجديد العهد مع النشاط الريادي والفعل المؤثر في تشكيل المشهد الاقتصادي والتنموي في القارة السمراء.
وقد يتيح المؤتمر، الذي دُعيت إلى المشاركة في أعماله في بنغازي منتصف سبتمبر/ أيلول القادم، طرح أسئلة هامة حول محدّدات الأمن الاقتصادي في أفريقيا، وموقع العرب فيه.
وفي ليبيا، إحدى بوابات التواصل والتعاون الاقتصادي بين الشمال والجنوب، يتيح الوضع الاقتصادي فرصَ التحرك العربي الممنهج والموجّه نحو التموقع وإرساء شراكات، أو إقامة استثمارات من شأنها تطوير النسيج المؤسساتي والبنية الاقتصادية الليبية، كمدخل لتطوير نموذج لتعاون عربي أفريقي فاعل في تشكيل الخارطة الاقتصادية في القارة السمراء.
تجربة الحي التجاري في إيسلي، الذي أنشأته الصومال منذ سنوات طويلة في إحدى مناطق العاصمة الكينية، تعد نموذجًا للحضور الاقتصادي والتجاري العربي في بلد تنهشه تهديدات بينها ضربات حركة الشباب الصومالية
وعمومًا، لا تزال جهود الدول العربية ومبادراتها السياسية في جلّ أقاليم أفريقيا محدودة، حيث لا تعكس رؤية أو سياسة مشتركة حيال التعاون والفعل الاقتصادي، ليكون متناسبًا مع حجم الرهانات وأهمية الفرص، ومخزون الثروات المتاحة في القارة الغنية بالموارد البشرية والطبيعية، ولا تكاد تضاهي نشاط الدول الغربية الكبرى، وحتى الصين والهند وروسيا، حيويةً وجرأةً.
ففي شرقي أفريقيا، ولاسيما كينيا مثلًا، نجد المشاريع الاقتصادية التي تقودها دول عربية، لا تكاد ترقى إلى مستوى منافسة الدول الأوروبية والآسيوية، ومنها الهند والصين، حيث تتفرد الصومال بتأثيث منطقة إيسلي الاقتصادية والتجارية بمئات المحال والفضاءات التجارية، التي تعززت مؤخرًا بمجمع تجاري ضخم، حيث لا تكاد تجد للنشاط الاقتصادي العربي حضورًا لافتًا سوى بعض المبادرات العابرة لميناء مومباسا.
قبل أشهر قدِم مستثمر تونسي مختص في التبادل التجاري، وافتتح نقطة بيع منتجات تونسية وتركيب في إيسلي، ولكن لم تسلم حاوية شحنة التمور التونسية من ضربات الحوثيين، فاضطر لدفع تعويضات لأضرار لحقت بالحاوية، إلى جانب كلفة إضافية بسبب طول الرحلة. حاول المستثمر تجاوز بعض الإشكالات وتحسين فرص اختراق السوق بالتعاون مع مصري ويمني سبقاه في المنطقة وحاولا المساعدة، بيد أن المسألة كانت أكثر تعقيدًا.
تجربة الحي التجاري الصومالي في إيسلي، الذي أنشأته الصومال منذ سنوات طويلة في إحدى مناطق العاصمة الكينية، تعد نموذجًا للحضور الاقتصادي والتجاري العربي في بلد تنهشه تهديدات بينها ضربات حركة الشباب الصومالية، التي أجهضت محاولات إعادة النشاط في المعابر الصومالية الكينية منتصف السنة الماضية.
العالم ييمم وجهه شطر أفريقيا، التي تزخر بقدرات كبيرة من الموارد، ومخزون الطاقات المتجددة، ورأس المال البشري
لقد صدمتني خلال سنتَي إقامتي في كينيا مواقف الكينيين الغريبة، التي تعتبر التونسيين البيض على الأغلب منحدرين قطعًا من الشعوب الأوروبية؛ وظل ذلك الموقف المحرج عندي مؤشر قصور في الحد الأدنى من التسويق، ودليل تقصير في التواصل وفي ترسيخ العلاقات مع دول شقيقة أو صديقة.
لم ينتبه العرب إلى أنه قد تضيع الفرص في اتجاه ترسيخ الحضور الاقتصادي، وحيازة موقع جيوستراتيجي في قلب أفريقيا، بناءً على إرث افتتحه اليمنيون والعمانيون قبل قرون، وتترجمه بصور عشوائية غير منظمة محاولات بعض المستثمرين والتجار والشركات الصناعية والمجمعات النفطية العربية.
والحال أن العالم ييمم وجهه شطر أفريقيا، التي تزخر بقدرات كبيرة من الموارد الباطنية، ومخزون الطاقات المتجددة، ورأس المال البشري واللامادي، وخاصة من الطاقات الشابة، والمؤسسات الناشئة، ومصنّعي الذكاء.
في سياق الحروب المحمومة على المواقع والمصالح الاقتصادية، واكتساح أجزاء من فضاء أفريقيا الاقتصادي، الذي يعتبره الخبراء أمل العالم وأفق المستقبل للدول الكبرى في ظلّ الأزمات والصراعات، مع شحّ الإمكانات وتناقص الموارد الطبيعية التقليدية وتراجعها، هل يلتفت العرب للفريقين، ويوحّدون الجهود في حركة جريئة قبل انتهاء زمن المحاولة وتحديد هامش المناورة؟.. لست أدري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.