في الأسابيع الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة نشر أحد الأشخاص مقطع فيديو، يظهر فيه وهو يقود سيّارة فارهة في أفخم مناطق إسطنبول أثناء عاصفة ثلجية، وأضاف مُعلّقًا: "فعلًا الله يعين أهل غزة، كيف عايشين ومتحملين هالجو، الله يفرج عنهم".. هل من رسالة حسنة في هذا التعليق المرافق لهذا المشهد الآمن والمريح؟ هل تحسِّن الظروف أو توحي بأيّ تضامن ودعم؟
ذكرني هذا الفيديو بأمّهات -مثلي- أنعم الله على أزواجهنّ بالرزق، فلم يحتجن إلى الخروج للعمل في أماكن لا يحببنها وبشروط لا تناسبهنّ، وربما يمرض أحد أطفالهنّ، أو لا ينام آخر طوال الليل، واحتياجات الأطفال كثيرة لا تنتهي! وبدلًا من العناية بأطفالهن بامتنان، يجدنها فرصة للمز الموظفات أو العاملات من الأمهات.
في أحد تصريحاتها تحدثت الفنانة أصالة عن قلقها على ابنتها بسبب التغيرات التي طرأت على حياتها بعد الإنجاب، كلماتها وهي تصف مشاعرها تجاه ابنتها لامست قلبي بعمق
كنت أظن أن المرحلة التي تفصل بين المرأة المراهقة والمرأة الأم هي عندما تصبح أمًا، فهي تنتقل من مرحلة النقد والتقريع وإلقاء المحاضرات على الأمهات إلى مرحلة الوعي والفهم والتحول إلى عالم مختلف كليًا، لذا فإن ما يثير الاستغراب هو الأم التي تنظّر على خيارات الأمهات الأخريات.
إن الله -عز وجل- حرّم على الإنسان المسلم النظر بتعالٍ إلى إنسان آخر مبتلى بالذنوب والمعاصي، فكيف إذا كانت النظرة إلى من هو بعيد جدًا عن ذلك الوصف؟ إذ كيف تشكّك امرأة بأمومة صاحبتها لمجرد أنها قررت متابعة دراستها، أو العمل، أو مشاركة عائلتها في تربية أطفالها؟
في أحد تصريحاتها تحدثت الفنانة أصالة عن قلقها على ابنتها؛ بسبب التغيرات التي طرأت على حياتها بعد الإنجاب، كلماتها وهي تصف مشاعرها تجاه ابنتها لامست قلبي بعمق، وهي تعبّر عنها بكل أريحية ووضوح وصدق، في مجتمع لا يتوانى عن انتقاد الأمّهات في كلّ مناسبة، يشكّك في عاطفتهنّ وأمومتهنّ ومحبتهنّ لأطفالهنّ مع كل شكوى تعب أو ملل أو ضجر.
وبطبيعة الحال، وصل هذا التشكيك والترهيب إلى وسائل التواصل الاجتماعي، إذ انتقل الهوس بـ "صناعة المحتوى" إلى مساحات شديدة الحساسية في حياة الإنسان، من بينها الطب النفسي والتربية ورعاية الأطفال. ويعمد المؤثرون عادة على اختلاف أطيافهم ونواياهم، إلى صياغة محتواهم بطريقة تجذب اهتمام المتابع وتثير مشاعره، بغض النظر عن الأثر السلبي لهذا الأسلوب أو المحتوى.
في بداية عهدي بالأمومة، كثيرًا ما هربت وألغيت مواعيدي وقلصت التزاماتي، وشعرت بالندم والقلق كلما تعرضت لموقف مع طفلي أو مرض أو غضب أو تغير مزاجه، أو عاكستني الظروف وأنا ملتزمة بأعمال أخرى
ففي حالة المحتوى الموجّه للأمهات والأهالي يروجون للفيديو بما يثير الشعور بالذنب وتأنيب الضمير لدى الأمهات، والتلاعب بنظرتهنّ لأنفسهنّ وكفاءتهن في تنشئة طفل سويّ. على سبيل المثال، كثيرًا ما مررت على عناوين شبيهة بـ "5 أساليب تدمر شخصية طفلك للأبد، هكذا تقتل إبداع أطفالك".
إذن، كيف يبدو الوضع عندما نحسن التعامل مع الشعور بالذنب؟ إنه شعور بالتسليم والتصالح مع النفس، إنه الإيمان بأن أطفالي هم أمانة من رب العالمين، تشاركني عوامل ومدخلات كثيرة في التأثير عليهم وتنشئتهم، ورغم كوني المصدر الرئيسي، أدرك أنهم في حفظ الله ورعايته.
إن التخلي القلبي عن الشعور بملكية الأطفال يجعل الإنسان يلتفت لأدواره ومسؤولياته الأخرى في الحياة، ويمنح الأطفال فرصة أوسع للنمو.. أتعلم كل يوم أن محبتي مهما عظمت لا تعني أن تدور حياتي في فلك أولادي، وأن حضوري الفعّال في حياتهم لا يعني أن تخلو من سواهم.
في بداية عهدي بالأمومة، كثيرًا ما هربت وألغيت مواعيدي وقلصت التزاماتي، وشعرت بالندم والقلق كلما تعرضت لموقف مع طفلي أو مرض أو غضب أو تغير مزاجه، أو عاكستني الظروف وأنا ملتزمة بأعمال أخرى، مع أني لست أمًا عاملة بالمعنى الوظيفي.. كنت حينها في بداية رحلتي في اختبار لعبة الأولويات، والكثير من الأحاديث تدور في ذهني عن الأم التي تترك طفلها، أو تلك التي تخرجه في البرد صباحًا لتوصله إلى بيت الجدة أو الروضة.
تتجلى الأمومة في أحد أشكالها بالقدرة على العطاء، ولا يحقق العطاء مبتغاه إن لم تكن نفس المعطي سهلة سمحة ممتلئة بالرضا والطمأنينة، لذا من المهم جدًا الالتفات لأسلوب الخطاب الموجّه للأمهات
أريد أن يتوقف العالم عن الطلب من الأمهات الاستمتاع بأمومتهن عن طريق أخذ إجازة من الحياة، كنت أتمنى أن يأتي من يعلمني كيف أعيش وأحيا وأمارس ما أحب وأنا أم جديدة، كيف أمارس أدواري المتعددة بالحياة وأتغلب على العقبات والضغوط بثقة وثبات، أريد أن يتوقف العالم عن إخبار الأمهات بأن عليهن أن يتوقفن عن كل شيء لثلاث سنوات بعد إنجاب كل طفل، وأن نتعلم التعامل مع مواقف الحياة بدلًا من الاستسلام لفكرة الاستمتاع الإجباري بالتفرّغ لرعاية طفل.
تتجلى الأمومة في أحد أشكالها بالقدرة على العطاء، ولا يحقق العطاء مبتغاه إن لم تكن نفس المعطي سهلة سمحة ممتلئة بالرضا والطمأنينة، ومن هنا أجد أنه من المهم جدًا الالتفات لأسلوب الخطاب الموجّه للأمّهات، وأن العمل على مساعدة ودعم الأمّ هو الخطوة الأساسية والتأسيسية في طريق تربية الأطفال الطويل.. هذه دعوة لرسم حدودك بوضوح أمام كل من يعطيك شعورًا سلبيًا أو محبطًا تجاه أمومتك.
الأمهات يخطئن ويصبن، يغضبن ويرضين فيحتجن من يربت على أكتافهن، ويبارك مساعيهن، ويرشدهن للطريق، ويذكّرهن بتجديد العلاقة مع الله عز وجل
مما لفت نظري مؤخرًا أن المثالية تتناقض مع عاطفة الأمومة وطبيعة الأنثى، إذ تسعى المثالية للكمال، وهو طريق يحمل في طياته الكثير من الإحباط والمشاعر السلبية، بينما نحن بشر نصيب ونخطئ، وإيماننا بهذه الطبيعة، وتقبلنا لذواتنا، يمنحنا القدرة على تقبل أطفالنا أكثر بكل ما يحملونه من تناقضات.. نقوِّم أحيانًا، ونصبر أحيانًا أخرى، ونراقب كيف يتغيرون ويكبرون ويستقلون.
عادة، عندما أتناول أي موضوع فإنني – وبينما أدرس وأنظر في أحد جوانب الأمر- أُبقي عينيّ تراقبان الزوايا الأخرى. أعلم أن حياة كثير من الأطفال قاسية جدًا، وأنهم محرومون من أدنى سبل الرعاية والمحبة، ويثير هذا في نفسي ونفس كل أمّ مشاعر مؤلمة؛ لكن هؤلاء الأطفال يحتاجون حلولًا أوسع وأشمل، وليسوا بحاجة لحديث ينتقد الأمهات.
أما الأمهات من مثيلاتي، فيخطئن ويصبن، يغضبن ويرضين فيحتجن من يربت على أكتافهن، ويبارك مساعيهن، ويرشدهن للطريق، ويذكّرهن بتجديد العلاقة مع الله – عز وجل – الذي أودع في أعناقهنّ هذه الأمانة، والعلاقة مع أنفسهنّ والاهتمام بها ليقمْن على شؤون أطفالهن بمحبة ورضا.
أحاول كل يوم أن أكون إنسانة صالحة، وأنا أخوض رحلتي في دروب الحياة الواسعة ممسكة بيد أبنائي، أظنّ أحيانًا أنني أصبحت أمًا "بالصدفة"، إذ كنت أريد أن أفتح العالم، قبل أن أعرف أنّ طفلي سيفتح قلبي؛ لأفهم العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.