التكامل النظري، الذي تتحدث عنه الكتب والمؤلفات العالمية، هو عبارة عن قواعد عامة للبشرية التي تسعى لتحقيق أهداف الاستقرار والنماء؛ والتوسع في دراسة الواقع يضع الحليم في دهشة مطلقة نتيجة الفرق الهائل، بين ما يطرح من نظريات عبر المؤلفات والكتب والإعلام، وبين شواهده المؤلمة، فالكل يتحدث عن النهضة والارتقاء، وواقع العالم العربي -بكل أسف- يسير من سيئ إلى أسوأ، ومن نازلة نحو أخرى.
لا مجال للخوض في أسباب هذا التناقض الواضح بين النظرية والتطبيق، ولا جدوى من تحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الفشل والنكوص والتراجع، بل الأجدى -من وجهة نظري- أن نبحث في الحلول العاجلة لهذه المآسي التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، أزمات اقتصادية وسياسية ومعرفية واجتماعية، كلها تتلاقى على شعوب بسيطة لا حول لها ولا قوة في مواجهة الأزمات العالمية، ولا طاقة لها في علاج تداعياتها على مستوى الفرد والأسرة والمؤسسة والمجتمع؛ فالحاجات الطبية والمدنية والأساسية والغذائية والمائية والاقتصادية، وظروف الموظفين والعمال والكادحين؛ كلها تشكل جبهات ضغط قوية، لا مجال لعلاج واحدة منها دون حلّ بقية الإشكاليات الملاصقة لها.
نحن اليوم أمام تحديات عديدة، تحديات تتصل بالوجود الحقيقي لشعوبنا وثقافتنا وهويتنا، والشعارات هنا لن تنقذنا أبداً من هذه المهالك، بل إن الحل الحقيقي يكمن في صحوتنا من التفكير الفردي مهما كان إبداعياً، إلى صورة التفكير الجماعي التخصصي
هنا يأتي دور التكامل والتكافل بين شرائح المجتمع، ليكون البوابة الكبرى لإيجاد سبل كريمة للحياة.. والتكامل المقصود هو تلاقي الجهود العقلية والعلمية، التي يمكن التعويل عليها في فهم الواقع وتحليله من أجل بناء صورة حقيقية له، لبناء مسارات عمل تخصصية لكل أصحاب التخصصات ليقوموا بتقديم رؤيتهم العلمية في الحلول الممكنة، أهل الطاقة في مجالهم، وأهل الإعلام في مجالهم، وخبراء الغذاء والبنية التحتية والمياه والزراعة والاقتصاد في مجالاتهم، لتتكامل الرؤى بخطة عملية لحلول ممكنة وعقلانية وقابلة للتطبيق.
هذه الخطة، التي سيقدمها الخبراء والأكاديميون وأهل التخصصات المهنية والفنية والمعرفية، تجري بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني وطبقات العمال والموظفين والشباب الجامعي فيها، وهذا العصف الفكري بين هذه الشرائح يعني أن المجتمع كله يعيش الحالة التي يجب أن يعيشها، ويخرج من دائرة الاتكالية والصمت والانتظار إلى دائرة العمل والتخطيط والتفكير الجدي والعملي، الذي يمكن التعويل عليه لإيجاد الطريق الأمثل للتعامل مع صعوبات الواقع.
تجربتي العملية في مجاميع رجال الأعمال والاتحادات والنقابات والهيئات الأهلية تقودني لصلب المشكلة، للحديث عنها علناً بكل جرأة ووضوح؛ فنحن اليوم أمام تحديات عديدة، تحديات تتصل بالوجود الحقيقي لشعوبنا وثقافتنا وهويتنا، والشعارات هنا لن تنقذنا أبداً من هذه المهالك، بل إن الحل الحقيقي يكمن في صحوتنا من التفكير الفردي مهما كان إبداعياً، إلى صورة التفكير الجماعي التخصصي، ليلتقي أهل كل حرفة وصناعة وتخصص بعضهم مع بعض، فهم أدرى الناس بمجالهم؛ وإذا وُضعت ضوابط التفكير بعيداً عن عالم المصالح وإظهار الذات تم الوصول إلى تحقيق الأهداف بأقصر الطرق.
كلي ثقة بأن مبادرة إيجابية واضحة المعالم ستكون نموذجاً لغيرها من المبادرات، وسينطلق السيل بعد أن تتجمع قطرات المياه المنسابة من رؤوس الجبال المتباعدة، لتلتقي سوياُ في وادي شعوبنا الظامئة لمبادرات العقول الإبداعية.
هذه التحديات تتطلب بالتأكيد أن نقف مع المحفزات التي يمكن من خلالها جذب الانتباه، لتتفاعل العقول بعضها مع بعض، وتنطلق شرارات العمل المقترن بالإخلاص، فلا ينتصر للشعوب إلا مخلص لها، ومن رضع من لبانها، وشرب من مائها، وارتبط بترابها بعيداً عن مصالح المال والمنصب والجواذب التي تحرف الإنسان عن إنسانيته.
إن مجريات الحرب الأخيرة على فلسطين، والتي عاش العالم كله أدق تفاصيلها، بينت حجم التهديدات التي تطال الفرد والمجتمع؛ وقد ظهر للقاصي والداني حجم الفشل في تأثير المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والأهلية، فلم نلحظ على المستوى العام المبادرات التي ترقى إلى حجم الخطر المحدق، ولم نر من المؤسسات الأهلية مبادرات العمل العام والتطوع والنماء، التي صدعت رؤوسنا بها خلال فترات الراحة، ولعل هذا ما يقودنا إلى التساؤل عن حقيقة وجودها والجدوى الحقيقية من مسميات كثيرة موجودة على خريطة الوطن العربي وهي مفرغة من مضامينها، ولو صرفت ميزانياتها على الواقع لاستطاعت تغييره.
ندائي هذا للعقول الناضجة ليس نابعاً من يأس أو إحباط، بل هو من يقيني الثابت بأن الخير في هذه الأمة لا ينتهي، وأن الخيرية في الشعوب لا يمكن أن تموت، بل إن هذا الخير محتاج للمحفزات الضرورية له ليأخذ دوره في الحياة ليثبت ذاته، وكلي ثقة بأن مبادرة إيجابية واضحة المعالم ستكون نموذجاً لغيرها من المبادرات، وسينطلق السيل بعد أن تتجمع قطرات المياه المنسابة من رؤوس الجبال المتباعدة، لتلتقي سوياُ في وادي شعوبنا الظامئة لمبادرات العقول الإبداعية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.