تدعي الدول الغربية أنها المدافع الوحيد عن قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام القانون على الساحة الدولية، كما تتفاخر بتصنيفها الديمقراطية وحقوق الإنسان قيمتين أساسيتين، وتعتبرهما معيارا لتقييم حكومات الدول الأخرى وشرعيتها. وعندما يتعلق الأمر بتطبيق هذه القيم في سياق القضية الفلسطينية يظهر بوضوح أن هناك تباينًا كبيرًا بين ما يدعيه الغرب وبين ممارساته الفعلية.
يمثل التعامل الغربي مع قطاع غزة خصوصا مثالاً صارخًا على هذا التضارب، إذ تتجلى ازدواجية المعايير والتناقض بين الخطاب والممارسة، كما يمثل اختبارا حقيقيا لاحترام حقوق وكرامة الإنسان، وتطبيق معنى الحضارة والتحضر في ظروف عالمية تفضي إلى المزيد من العنف والمزيد من الحروب.
ففي حين أدان أكثرية الزعماء الغربيين هجمات المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ووصفوها بالوحشية، لم يدينوا الإبادة الجماعية الماثلة أمام أعينهم في حق المدنيين في غزة، فيما استمر المسؤولون الأميركيون في دعم ما يعتبرونه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بغض النظر عن العدد المرتفع للشهداء في غزة، والذي تجاوز 37 ألفا.
في قطاع غزة، دعا قادة الاتحاد الأوروبي إلى دخول المساعدات بشكل سريع وآمن لكل من يحتاج إليها في القطاع، ولكن من دون العمل على ذلك!
المساعدات الإنسانية
من المحير أن الدول الغربية، التي تقدم مساعدات ضخمة للدول التي تعاني من أزمات إنسانية، لا ترسل لغزة إلا مساعدات خجولة! فقبيل الحرب على قطاع غزة، عرض قادة أوروبا خطة تمويل تصل قيمتها إلى 20 مليار يورو، يجري من خلالها تقديم الدعم إلى أوكرانيا على مدار 4 سنوات، كما يعمل الاتحاد على استخدام أصول روسية مجمدة لمساعدة كييف.
أما في قطاع غزة، فقد دعا قادة الاتحاد الأوروبي إلى دخول المساعدات بشكل سريع وآمن لكل من يحتاج إليها في القطاع، ولكن من دون العمل على ذلك! فللشهر التاسع على التوالي، يمنع الاحتلال إدخال معظم المواد الغذائية والتموينية إلى منطقة شمال غزة، التي تضم محافظتي غزة والشمال، ما أدى إلى تفشي مجاعة مميتة في صفوف أكثر من 650 ألف مواطن ظلوا صامدين في المحافظتين، من أصل نحو مليون ونصف مليون مواطن قبل الحرب.
وخلال الأسابيع الأخيرة بدأت تظهر على سكان المنطقة أعراض الكثير من الأمراض التي لها علاقة بسوء التغذية، وفي مقدمتها نقص الوزن بشكل متسارع، والضعف والهزال العام، وشحوب الوجه والكبد الوبائي ونقص المناعة والالتهابات في معظم أنحاء الجسم، عدا التشوهات الخلقية لكثير من المواليد. وقد قتلت المجاعة في قطاع غزة نحو 40 طفلا، فيما يواجه 3500 طفل خطر الموت بسبب سوء التغذية!
منذ بداية اجتياح إسرائيل لغزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أخذت وسائل الإعلام الغربية موقفا منحازا بشكلٍ واضحٍ لصالح إسرائيل، ما تسبّب بزيادة انتشار المعلومات المضلّلة حول الأزمة
التغطية الإعلامية
اصطفت الدول الغربية التي تدعي مناصرة حقوق الإنسان إلى جانب إسرائيل.. ليس هذا فقط؛ بل سخّروا إعلامهم لتبرير وحشية آلة القتل الإسرائيلية في حق المدنيين. واتسمت التغطية الإعلامية الغربية للأحداث في غزة بالانحياز، حيث ركزت على الخسائر الإسرائيلية متجاهلة المجازر في حق الفلسطينيين.
فمنذ بداية الأزمة الحالية في إسرائيل وغزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أخذت وسائل الإعلام الغربية موقفا منحازا بشكلٍ واضحٍ لصالح إسرائيل، ما تسبّب بزيادة انتشار المعلومات المضلّلة حول الأزمة.
ومع تكشف الكارثة في غزة وتداعياتها المأساوية على سكان القطاع، أدى الإعلام الغربي دورا مسيئا، فبالإضافة إلى تشويه إطار المأساة الحاصلة، كان للمعلومات المضلّلة التي نشرتها وسائل الإعلام، والمتجذرة في سرديات غير موثّقة أو متناقضة أو خاطئة، تداعيات إنسانية سلبية على الأرض.
وصنّفت وسائل الإعلام الغربية السابع من أكتوبر كـ"هجوم إرهابي" بشكلٍ قاطع، في حين صوّرت في المقابل الهجوم الإسرائيلي على غزة، الذي أودى بحياة الآلاف غالبيتهم الساحقة من النساء والأطفال، على أنّه إجراء يندرج ضمن "الدفاع عن النفس".
والأمر المزعج الآخر هو تبنّي الوصف الإسرائيلي للأزمة على أنّها "حرب"، ما يخلق مساواة زائفة بين الطرف القائم بالاحتلال والطرف المُستهدَف به، نظرا للاختلال الصارخ في التوازن على نحو لا يُصدَّق، بين الموارد والقدرات العسكريّة عند حماس ونظيرتها عند إسرائيل.
الأوكرانيون يعتبرون ما يسمونه بهجوم حماس على إسرائيل مساويا للعدوان الروسي على بلادهم، ولا يعارضون الهجوم البري الإسرائيلي على غزة!
الموقف السياسي والعسكري.. أوكرانيا مثالا
لا شك أن هناك تمايزا جليا في موقف المجتمع الدولي بين الحرب الدائرة في غزة ونظيرتها في أوكرانيا، وما هو إلا تأكيد على غياب عدالة المجتمع الدولي، وانحيازه ضد العرب والمسلمين تحديدا.
ففي الحرب الروسية على أوكرانيا سخرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كل إمكانياتهم من أجل كييف؛ ففتحوا لها مخازن أسلحتهم، وضخوا عشرات المليارات من الدولارات في شرايين الاقتصاد الأوكراني ليظل صامدا، ووقّع الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الأربعاء 24 أبريل/نيسان 2024 قانونا يوفر مساعدات أميركية جديدة بمليارات الدولارات لأوكرانيا في حربها مع روسيا.
كما تتضمن الخطة الواسعة هذه أيضا تخصيص مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات لإسرائيل، وستستخدم هذه الأموال خصوصا لتعزيز الدرع الإسرائيلية المضادة للصواريخ التي تسمى "القبة الحديدية". وصرح بايدن "التزامي تجاه إسرائيل لا يتزعزع، فأمن إسرائيل مهم للغاية".
في 13 من أبريل/نيسان 2022، اتهم بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب إبادة جماعية في أوكرانيا، أما في غزة فألقى بايدن اللوم على حركة الجهاد الإسلامي، واتهمها بالتسبب في مذبحة مستشفى المعمداني التي راح ضحيتها قرابة 500 شهيد.
الغريب في الأمر أن الأوكرانيين أنفسهم يعتبرون ما يسمونه بهجوم حماس على إسرائيل مساويا للعدوان الروسي على بلادهم، ولا يعارضون الهجوم البري الإسرائيلي على غزة! ودعا الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي زعماء العالم إلى إظهار التضامن والوحدة في دعم إسرائيل وإدانة حركة حماس بقوله: "إن إسرائيل لها كل الحق في حماية نفسها"!
هذا التناقض في التعامل يثير التساؤلات حول معايير الغرب الإنسانية والسياسية وعن الأسباب المحتملة لهذه الازدواجية الفظة، وتقديري أن هناك عدة عوامل تسهم في هذا التناقض، منها:
- المصالح السياسية واللوبيات: للغرب مصالح إستراتيجية وسياسية مع إسرائيل، ما يدفعه لتبني مواقف متساهلة تجاه سياساتها، كما أن الغرب والولايات المتحدة الأميركية يريدان بقاء إسرائيل في المنطقة، وبالتالي يوافقانها على تعاملها مع ما يهددها من أخطار، إذ يعتبر الغرب حماس حركة إرهابية يجب القضاء عليها، وتمارس اللوبيات المؤيدة لإسرائيل دورا كبيرا في تشكيل السياسات الغربية، ما يؤدي إلى انحياز واضح للكيان.
- النظرة الثقافية والاستشراقية: ليس بجديد علينا أن هناك نظرة ثقافية متعالية تمارسها غالبية الدول الغربية تجاه الشرق الأوسط، تؤدي بدورها إلى تجاهل معاناة سكانه، كما أن التغاضي أو محاولة تبرير قتل إسرائيل للمدنيين تقودنا إلى الرؤية الفوقية، التي يمارسها الغرب الذي ينظر إلى شعوب الشرق على أنها أقل شأنا من الشعوب الأوروبية.
على الغرب أن يعلم أن هذه الازدواجية التي تُشعر الغزّيين بفقدان الدعم الدولي والإنساني، ستعزز الشعور بالظلم وتغذي مشاعر العداء تجاه الغرب أكثر وأكثر
قد تكمن العلّة فعلا في مفاضلة أوروبا بين إنسان وإنسان، فتتحرّك تجاه الفرد الأوروبي الذي تعتبره دون أيّ سند فلسفي أو قانوني أفضل من غيره، ولذلك لا يرفّ لها جَفنٌ حين يتعلّق الأمر بما يجري في فلسطين وفي سائر البلدان العربية والأفريقية، كأن إنسانها لم تكتمل ملامح بشريته ولا يستحقّ التعامل نفسه.
وبتحويل الدول الغربية رؤيتها الفوقية هذه إلى سياسات تمارسها تجاه كل منطقة الشرق الأوسط تكون النتيجة ما نعيشه اليوم (استباحة دماء.. تدميرا وتجويعا.. انتهاكات واستغاثات دون مجيب).
ولكن على الغرب أن يعلم أن هذه الازدواجية التي تُشعر الغزّيين بفقدان الدعم الدولي والإنساني، ستعزز الشعور بالظلم وتغذي مشاعر العداء تجاه الغرب أكثر وأكثر، وهذا العداء المتزايد يستدعي منه مراجعة جذرية وإعادة نظر في مواقفه وسياساته عبر تبني نهج يقوم على الحقوق والقوانين الدولية بشكل حقيقي وغير متحيز.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.