تابعت خطاب الرئيس التركي أردوغان الأسبوع الماضي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة الذكرى 571 لفتح مدينة إسطنبول، والحقيقة أن خطابه حمل العديد من التصريحات المهمة، لفت انتباهي فيها ما تعلق برسائله لحكام الدول الإسلامية حين قال: "أقسم بالله، إن الله سيحاسبكم ويحاسبنا جميعا على ذلك. إن الله سبحانه وتعالى سيحاسب أولئك الذين يغضّون أبصارهم ويصمّون آذانهم ويصمتون ولا يبدون أيّ ردة فعل، في الوقت الذي ترتكب فيه حفنة قليلة من الإرهابيين إبادة جماعية بحق المسلمين في مركز وقلب المنطقة الإسلامية."
والمتابع للشأن التركي، يمكن أن يلاحظ أنه منذ أن أعلنت نتائج الانتخابات المحلية، حدث تغير في مضمون الخطاب الرسمي للرئيس أردوغان وتزايد حدته في توجيه الاتهامات لحكومة الكيان والهجوم علي رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، الذي وصفه أردوغان أخيراً بالهمجي "المتعطش للدماء".
اعتقدت أنقرة سابقا أن الصراع في غزة لن يطول وسينتهي سريعا، لكن يبدو الآن أن لديها قناعة بأن الأزمة على وشك أن تتحول إلي صراع مفتوح.
تطور الموقف التركي
يرى السيد سونير جابتاي مدير البرنامج التركي للأبحاث في معهد واشنطن، في التقرير المنشور على موقع المعهد 8 مايو/أيار الماضي تحت عنوان "هل تقطع تركيا علاقاتها مع إسرائيل"، أن الموقف التركي تجاه الكيان خلال الأشهر الأولى من انطلاق أحداث طوفان الأقصى اتسم بما أسماه الهجوم باستخدام القوة الناعمة "Charm Offensive"، حيث كانت التصريحات الرسمية منضبطة الألفاظ ووجهت الانتقادات لشخص رئيس وزراء الكيان، لأن الحكومة التركية راهنت على سقوط حكومته وذهاب نتنياهو، الأمر الذي من شأنه أن يحفظ توازن الموقف التركي، ومن ثم يؤهل أنقرة للعب دور أكبر في التسوية السياسية للنزاع فيما عرف بترتيبات "اليوم التالي في غزة" مع إمكانية المشاركة في إعادة إعمار القطاع.
وبالرغم من ذلك، يؤكد السيد جابتاي أن التحفظ التركي تجاه الكيان تغير بشكل جوهري، وأرجع ذلك، من وجهة نظره، للأسباب الأتية:
- أولا: امتناع إدارة بايدن مؤخرا عن تحديد إطار زمني لزيارة أردوغان إلى البيت الأبيض بسبب خلافات حول نتائج القمة، بما في ذلك الصفقات التجارية المحتملة وطبيعة مراسم استقبال الرئيس أردوغان في واشنطن.
- ثانيا: اعتقدت أنقرة سابقا أن الصراع في غزة لن يطول وسينتهي سريعا، لكن يبدو الآن أن لديها قناعة بأن الأزمة على وشك أن تتحول إلى صراع مفتوح.
- ثالثا: تشعر أنقرة بالقلق من أن نتنياهو قد يبقى على الساحة وعلى رأس السلطة لفترة أطول مما كان متوقعا، بل أنه حتى لو سقط الآن، فإن القادة الأتراك يعتقدون أنه قد يعود في انتخابات مبكرة لاحقة.
- رابعا: تعرض "حزب العدالة والتنمية" الحاكم الذي يتزعمه أردوغان لهزائم كبيرة في الانتخابات البلدية التي جرت في 31 مارس/آذار الماضي.
من أجل ذلك جاءت تلك التصريحات ضمن السياق العام للتحول في لهجة الخطاب التركي وللأسباب التي ذكرها السيد جابتاي التي أتفق معه في بعضها وأختلف مع البعض الآخر.
أنا بالطبع لا أعتقد أن الرئيس أردوغان متحمس للقاء الرئيس الأميركي بايدن الذي اقتربت ولايته أن تنتهي ولا يثق المراقبون في حظوظه بالتجديد لفترة رئاسية أخرى.
فعلى سبيل المثال، فإنني لا أتفق مع رأيه القائل بأن تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن وما صاحب ذلك من خلافات بشأن ترتيبات برنامج الزيارة هو السبب في تغير الموقف التركي. فعلى العكس من ذلك، إذا كان أردوغان حريصاً على استرضاء البيت الأبيض، لكان أولى به أن يتبنى موقفاً أكثر هدوءا من الحرب في غزة وأقل تشدداً مع الكيان الصهيوني ومهادناً أكثر مع الولايات المتحدة.
وأنا بالطبع لا أعتقد أن الرئيس أردوغان متحمس للقاء الرئيس الأميركي بايدن الذي اقتربت ولايته أن تنتهي ولا يثق المراقبون في حظوظه بالتجديد لفترة رئاسية أخرى.
وإذا كانت تلك الزيارة من أولويات أردوغان لما جاء خطابه المشار إليه أعلاه متضمناً نقداً عنيفاً واتهامات شديدة اللهجة للإدارة الأميركية حين وصفها بأن "أيديها ملطخة بالدماء".
ومن ناحية أخرى فإنني أيضاً أختلف مع السيد جابتاي بشأن السبب الرابع المتعلق بخسارة الحزب الحاكم في انتخابات البلديات، إذ لو كان الحزب الحاكم قد فاز في تلك الانتخابات، لمثَل ذلك حافزاً له ولتأكد له أن سياساته تتماهى مع الزخم الشعبي والتأييد الذي تحظى به القضية الفلسطينية في الشارع التركي.
لقد أدرك صانع السياسة في الحزب، ومن ثم الحكومة التركية أنه يجب عليه أن يظل هو القاطرة التي تقود الجماهير وبوصلتها، لا أن يكون الحزب في موضع رد الفعل خاصة تجاه مسألة مصيرية وقضية تتعلق بحق شعب في أرضه، في ظل بروز كيانات ومنافسين له على استعداد للمزايدة السياسية على مواقفه.
تركيا لا تزال مصرة، بل ومقتنعة أن السبيل الأوحد لحل أي مشكلة في الإقليم هو الحوار وتنسيق المواقف مع الشركاء الإقليميين من الدول العربية والإسلامية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لماذا وجه الرئيس التركي اللوم وسهام النقد إلى حكام العالم الإسلامي دون أن يسميَ أحدا؟
على الرغم من أن الرئيس التركي لم يستثنِ نفسه في هذه الرسالة من أن الله سيحاسبه شأنه في ذلك شأن باقي حكام الدول الإسلامية، إلا أنه استخدم هذا الدعاء ليبعث برسائل سياسية محددة لأولئك الحكام المتخاذلين عن نصرة الشعب الفلسطيني والمرتعشين بصدد اتخاذ مواقف حاسمة بالتنديد بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها.
وفي رأيي، فإن تركيا لا تزال مصرة، بل ومقتنعة أن السبيل الأوحد لحل أي مشكلة في الإقليم هو الحوار وتنسيق المواقف مع الشركاء الإقليميين من الدول العربية والإسلامية.
فهي ترغب في أن يكون أي حل مقترح بشأن الحرب في غزة مبنياً على عمل جماعي حتى لا تُتهم بالمزايدة على شركائها اذا تبنت مواقف متقدمة عنهم، كما تسعى بطبيعة الحال إلى عدم وصمها بالتواطؤ إذا تقاعست عن القيام بما يجب فعله من أجل إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
تركيا تريد أن تستغل الظرف الدولي الذي يتراكم فيه الدعم الشعبي ومن ورائه الرسمي لتأييد السردية الفلسطينية على حساب الرواية الصهيونية.
مرحلة جديدة
ولا يجب علينا أن ننسى أن السياسة الخارجية التركية أعادت توجيه اهتماماتها عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يؤكد ذلك ما جاء في تقرير نشرته مؤسسة سيتا بعنوان "أولويات السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الرئاسية.. مرحلة جديدة" والذي كتبه الباحث السيد مورات يشيلطاش وجاء فيه "أن تركيا تبنت سياسة خارجية ترتكز على إعادة تطبيع العلاقات مع دول الشرق الأوسط وتسعى إلى أن تشق طريقها في مناخ جيوسياسي متقلب تتخلله مجموعة من الأزمات الإقليمية".
من ثم، وفي ظل هذه البيئة المضطربة، سعت تركيا لتدعيم علاقاتها الإقليمية مع الاحتفاظ بمواقف سياسية متسقة مع ثوابتها وأمنها القومي.
لقد دخلت تركيا في عملية تطبيع العلاقات مع دول الخليج اعتبارا من العام 2020 الأمر الذي أدى إلى انطلاق التعاون المشترك في عدة مجالات على رأسها التجارة والاستثمار والصناعات الدفاعية والطاقة، بالأخص مع المملكة العربية السعودية والإمارات من ناحية، إلى جانب تكريس وتعميق التعاون القائم فعلا مع دولة قطر من ناحية أخرى.
تركيا لن تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي وهي ترى الشركاء في العالم العربي والإسلامي كما وصفهم أردوغان "صامتين"
لكن تسارع الأحداث بعد "طوفان الأقصى" مثل اختبارا حقيقياً لمدى رسوخ سياسات التطبيع التي اعتمدتها الحكومة التركية.
وبالعودة إلى الأسباب التي ساقها السيد جابتاي، والتي تتمثل في حقيقة أن الصراع في غزة قد تحول إلى حرب مفتوحة مع غياب أي أفق للحل خصوصاً مع استمرار بقاء نتنياهو في الحكم، فإن تركيا لن تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي وهي ترى الشركاء في العالم العربي والإسلامي كما وصفهم أردوغان "صامتين".
إن تركيا تريد أن تستغل الظرف الدولي الذي يتراكم فيه الدعم الشعبي ومن ورائه الرسمي لتأييد السردية الفلسطينية على حساب الرواية الصهيونية.
وفي سبيل ذلك، تسعى تركيا من خلال رسائل أردوغان المباشرة والمشفرة أن تحقق مجموعة من الأهداف تؤدي في نهاية المطاف إلى أن تفتح الطريق من أجل قيامها بدور أكبر وفعال في حرب غزة، مع الاحتفاظ بمكتسباتها السياسية والاقتصادية التي جنتها من جراء انخراطها في مسار تمتين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية بالمنطقة، وذلك من خلال أن تضع تلك الدول الإسلامية أمام التزاماتها الدينية والأخلاقية أولاً، وبما يضمن ألا تتورط تركيا في مسارات أخرى غير ملائمة لها سواء من حيث التوقيت أو الاستحقاقات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.