إذا اتفقنا أن اجتماع سقيفة بني ساعدة كان أول اجتماع لما أمكن فيما بعد تسميته اجتماع أهل الحل والعقد، وأن هذا الاجتماع إنما كان بمبادرة فريق من المسلمين، لم ينتخبهم أحد، لكنهم شعروا بالمسئولية، وكانوا يمثلون في الأساس الأوس والخزرج، وهم أهل قاعدة المسلمين المتينة، ثم انضم إليهم ثلاثة من المهاجرين، واتفقوا، وأظهر اتفاقهم أن الأنصار أرفع من النزول إلى منافسة قد تضعف المسلمين رغم أحقيتهم.
ولم يجد عامة أهل المدينة أي سبب لعدم قبول قراراتهم، بل إن من اعترضوا عليها من بعض بني عبد مناف لم يشككوا في أهلية المجتمعين في السقيفة، ولم يقودوا حملة منظمة ضدهم، واعترضوا بشكل سلمي وحضاري، وتم الأمر بسلاسة مكنت الصديق من تجاوز أضخم فتنة وجودية واجهت الدولة المسلمة، وهي فتنة الردة، التي تم القضاء عليها قضاء مبرما بفضل تماسك مجتمع السابقين من المسلمين.
لا خلاف بين علماء الشريعة على أن الحاكم المسلم يستمد سلطانه من الأمة، أي من الناس الذين يحكمهم، وبالتالي المتوقع أن يقوم الحكام على صيانة المبادئ والقيم التي يؤمن بها الناس الذين أوكلوا إليهم القيام على شئونهم، وبذلك فإن على الحاكم خدمة الناس والقيام على مصالحهم والعمل على حماية البلاد ورفع شأنها، وليس هناك خلاف على ذلك.
استمر شكل أهل الحل والعقد في ممارسات عمر رضي الله عنه، وجمعه الصحابة لاستشارتهم بين حين وحين، ولكن أهل الحل والعقد المفترضين فشلوا في تطويق الفتنة الثانية، وهي فتنة مقتل عثمان بن عفان رضى الله عنه.
وعندما بايع بعضهم عليا، وشعروا بأنهم في بيعته لم يتشرطوا عليه معاقبة الثائرين قاموا بثورتهم المؤلمة، وكان على رأسها من هم على رأس أهل الحل والعقد المفترضين، وهكذا انتهى حال أفضل أمة أخرجت للناس إلى ما عرفناه، وتحول الحكم إلى الملك العضوض بعد أن رتب معاوية (وهو أحد أذكى حكام التاريخ) لانتقال الحكم إلى ابنه يزيد، الأمر الذي أطلق مجموعة من الثورات من عقالها، ودفع المجتمع المسلم ثمنا باهظا لها.
هنا يحق لنا أن نتساءل لماذا لم يتوقف علماء المسلمين إلى أخذ الدروس والعبر مما حدث؟ كان ذلك سيؤدي بهم إلى تقنين قضايا مهمة، مثل كيف نختار أهل الحل والعقد، وكيف يكتسبون صفة الوكالة عن الأمة، وكيف يقوم الناس بالاعتراض على الحاكم سلما، وكيف يقال الحاكم إن وجد أن هذا في مصلحة الأمة!
كان هذا سيفتح على أمتنا بابا واسعا من الخير، ولكن العلماء تحولوا إلى تقنين طاعة الإمام المتغلب، وربما كان مسوغهم حماية المجتمع المسلم من مزيد من التفكك، كما أن مبادرة الأمويين إلى التوسع والفتح جعلت أمن المجتمع المسلم الذي يكتسب أراض وشعوبا جديدة بسرعة أمرا مهما. ورأى العلماء أن حكم المتغلب يحقق الأمن، ولكن ورغم النوايا الحسنة غارت تحت السطح مشكلات أخرى ندفع الآن ثمنها.
لا خلاف بين علماء الشريعة على أن الحاكم المسلم يستمد سلطانه من الأمة، أي من الناس الذين يحكمهم، وبالتالي المتوقع أن يقوم الحكام على صيانة المبادئ والقيم التي يؤمن بها الناس الذين أوكلوا إليهم القيام على شئونهم، وبذلك فإن على الحاكم خدمة الناس والقيام على مصالحهم والعمل على حماية البلاد ورفع شأنها، وليس هناك خلاف على ذلك.
حكم المتغلب هو القاعدة في الدولة الإسلامية، قد يظن البعض أن ظاهرة الديكتاتورية، و تولي الحاكم للسلطة بفضل قوة انقلابية أو ما يشبهها شيئا مستجدا في تاريخ المسلمين، الحق أن ما يحصل اليوم إنما هو امتداد لما كان يحدث عبر التاريخ منذ انتهاء حقبة الخلفاء الراشدين.
هنا يحق لنا أن نتساءل، ألم يساهم الفقهاء بشرعنتهم حكم المتغلب في إعطاء الشرعية لكل الحكام الذين استولوا على الحكم بالقوة دونما خيار من الشعب؟ ولم يقوموا على مصلحة الشعب بشكل مقبول.
الحق أن كل الحكام في التاريخ الإسلامي بعد عصر الراشدين لم يكونوا يصلون إلى الحكم بترشيح الأمة لهم، ولم تتح للشعب حقوق الاختيار والموازنة بين مجموعة مرشحين ثم تولية من يغلب على رأي الأمة أو ممثليها أنه الأقدر.
أصبح حكم المتغلب هو القاعدة في الدولة الإسلامية، قد يظن البعض أن ظاهرة الديكتاتورية، و تولي الحاكم للسلطة بفضل قوة انقلابية أو ما يشبهها شيئا مستجدا في تاريخ المسلمين، الحق أن ما يحصل اليوم إنما هو امتداد لما كان يحدث عبر التاريخ منذ انتهاء حقبة الخلفاء الراشدين.
الفرق يكمن اليوم فقط في أن الحكام استفادوا من الإمكانيات التي أتاحها التقدم المادي وتطور وسائله في العالم، من إمكانيات استخباراتية وما إلى ذلك، ولكن الجوهر بقي واحدا وهو قيام الحكم على التغلب.
يرى الأستاذ عبد الكريم بكار في كتابه " أساسيات في نظام الحكم في الإسلام " أن اعتراف الفقهاء بولاية المتغلب إنما كانت بناء على عدد من القواعد الفقهية و منها "احتمال أهون الشرين"، أي دفع الضرر الأخطر باحتمال الضرر الأقل، فمقاومة المتغلب ستكون في تقديرهم أعظم خطرا من بقائه، لما يترتب على المقاومة من إراقة الدماء وإهدار مصالح الناس، أما في حالة أن يكون ضرر بقائه أكبر من ضرر مقاومته، فإن المصلحة تكون حينئذ في الخروج عليه حتى ولو تطلب ذلك القتال.
ولا يعتبر الفقهاء الذين أجازوا حكم المتغلب أن الخروج عليه بغي، ويمثلون لذلك بخروج الحسين على يزيد، ولو أدى الخروج على المتغلب إلى خلعه فإن الفقهاء لا يترددون في الاعتراف بمن يخلفه اعترافا صحيحا إذا كان مستكملا للشروط، أفهم هنا من عبارة استكمال الشروط أن يكون ترشيحه من فئة معتبرة كأهل الشورى، وأن توافق عليه الأمة، ولكن إذا لم يستكمل الشروط فإن الفقهاء يعترفون به اعتراف ضرورة كاعترافهم بسلفه.
وهنا لا يكون لسلفه حق الاعتراض لأن الاعتراف به كان في الأصل اعتراف ضرورة، ولا يعفى الاعتراف بحكم المتغلب الأمة عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح المتغلب، هذه يعتبرها الدكتور بكار نوعا من الضغط الأدبي المطلوب، ودليل ذلك حديث رسول الله: إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
وشخصيا أفهم كلام الدكتور بكار على أنه حديث عن بعض الفقهاء، ولا أستطيع تقدير نسبتهم، لأن فقهاء آخرين كانوا بالتأكيد يقولون كلاما غير هذا فلم يجيزوا مثلا خروج الحسين على يزيد.
وللموضوع بقية بإذن الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.