انتقدني أحد الأصدقاء في بعض السلوكيات، ثم بعد أن وجه النقد لي شعر بحرج شديد وظل يعتذر ويتأسف؛ فقلت: لا عليك سيدي الكريم، بل أنا أشكرك جدا على هذا النقد ولا حرج أبدا، فأنا بحاجة شديدة إليه وأتفهمه وأتقبله بصدر رحب؛ فكلنا بشر، وليس الكمال إلا لله تعالى، ولا تستقيم حياتنا دون نقد ونصح وتوجيه وتعديل للسلوك، لنسير على الصراط المستقيم نحو الأهداف العظيمة التي خلقنا الله من أجلها، والغاية العظمى التي نعمل لها، من أجل أن نفوز في الدنيا والآخرة.
الآيات العظيمة تعلمنا أن نقبل النقد والتوجيه وتعديل السلوك، فليس هناك إنسان كبير على النقد، ولو كان هناك من هو كذلك لكان أولى أن يكون خير خلق الله أجمعين صلى الله عليه وسلم
قلت: يا صديقي، لقد تعلمت من القرآن العظيم احتياج البشر جميعا بلا استثناء إلى النقد بطريقة صحيحة وبناءة؛ فمن بين 114 سورة التي أنزلها الله تعالى لإدارة حياتنا بكل تفاصيلها، وإدارة الناس جميعا قيادة وأفرادا؛ سورة يحمل اسمها وصفا نقديا، وهي سورة "عبس"؛ التي وجه الله تعالى النقد فيها لسلوك خير الخلق أجمعين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولامه على سلوك تغير ملامح الوجه مع أعمى.
كان ذلك مع أن هذا الأعمى لم ير هذه الملامح المتغيرة من عبوس الوجه؛ فإنما هي تربية راقية عظيمة على ضبط سلوك القائد مع فرد من ذوى الاحتياجات الخاصة، وهذا يبين القيمة الكبيرة لذوي الاحتياجات الخاصة عند الله تعالى، والوزن النسبي الكبير لقيمتهم في المنهج القرآني العظيم، حتى تنزل سورة تعاتب القائد وتنتقد سلوكه وتربيه، وتربي الأمة وقياداتها عبر الزمن كله على قيمة كل إنسان عموما، وقيمة ذوي الاحتياجات الخاصة خصوصا، وعلى أهمية ضبط سلوك القيادة بالنقد.
وانظر إلى تفاصيل هذا النقد واللوم في آيات تتلى ويتعبد بها للارتقاء بالسلوك وعلى مستوى قيادة الأمة: {عبس وتولى* أن جآءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جآءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى} [سورة عبس: 1–10]
قلت لصديقي إن هذه الآيات العظيمة تعلمنا أن نقبل النقد والتوجيه وتعديل السلوك، فليس هناك إنسان كبير على النقد، ولو كان هناك من هو كذلك لكان أولى أن يكون خير خلق الله أجمعين صلى الله عليه وسلم؛ والنقد لا يقلل من قيمتك كما لم يقلل من قيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد نزل عليه هذا النقد قرآنا يتلى، وبلغنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه نقد لذاته؛ لم يخفه أو يستحي منه، وستظل الأمة تقرؤه لتتعلم منه، ويتبين أن من عظمة المنهج القرآني تعليم تعديل سلوك القيادة.
في حياتنا العملية، حينما يأتيك توجيه بتجنب سلوك شخص في أمر من الأمور؛ فهل يقلل هذا النصح من قيمته في العالمين ومكانته في النفوس؟!
كذلك وجه الله سبحانه وتعالى النقد لرسوله صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى، منها في سورة التوبة، ففي مسألة الجهاد وتجهيز الجيوش يوجه اللوم للقائد الأعلى للقوات المسلحة بسبب إذنه لبعض أفراد الجيش: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43].
قال صديقي متعجبا: لأول مرة أتبين تربية القرآن في توجيه النقد لأعلى قيادة يمكن أن أتصورها، خير خلق الله قائد الأمة صلى الله عليه وسلم، رئيس حزب الإيمان، القائد الأعلى للقوات المسلحة.. قلت: أرأيت يا صديقي الحبيب!! فما كان ينبغي أن تعتذر عن نقدك لفرد بسيط مثلي؛ يا صديقي الحبيب، من يتعمق في كتاب الله تعالى يدرك أن النصح والنقد تربية قرآنية أصيلة. إن الأنبياء -وهم أعظم قيادات البشرية- في حاجة إلى النصح والنقد وتعديل السلوك، والمثال الواضح على ذلك هو سيدنا يونس عليه السلام.
وفي حياتنا العملية، حينما يأتيك توجيه بتجنب سلوك شخص في أمر من الأمور؛ فهل يقلل هذا النصح من قيمته في العالمين ومكانته في النفوس؟!
انظر وتأمل في كلمات الوحي العظيمة التي نزلت تنهى عن مثل سلوك سيدنا يونس عليه السلام في عدم صبره على قومه وتركه لهم: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادىٰ وهو مكظوم} [القلم :48]، وتذكر أنه فعل ما يلام عليه {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 142]؛ ومع ذلك فإن هذا النقد وتوجيه اللوم لم يقلل من مكانته عند الله تعالى، وتدارك الله سبحانه له بنعمته واجتبائه له عليه السلام، وجعله من الصالحين: {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فٱجتبه ربه فجعله من الصـلحين} [القلم: 49- 50] بل واختياره وتفضيله على العالمين {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 86].
قال لي صديقي: ما أجمل هذا النقد الراقي الذي يتميز بهذه المواصفات، التي لاحظت أنها ترتبط بالأهداف، وتراعي المشاعر، وتحافظ على قيمة الشخص وتقديره، وتخلو من الإساءة والتجريح! ما أروع هذا المنهج! وما أحوجنا وأحوج العالم إلى هذه التوجيهات القرآنية الراقية، التي تطور الحياة وترتقي بأحوال المجتمع! قلت: صدقت يا صديقي؛ فالأمم التي تتكبر على النقد، تظل غارقة في خللها وتخلفها إلى الأبد، والقيادة التي ترفض النقد أو تتحرج منه، أو لا تشجع عليه، هي قيادة راكدة؛ لا يمكنها أن ترتقي بالأحوال، أو تنطلق إلى الأمام، ولا يمكنها أن تخطو خطوات نحو التغيير والرقي والتقدم.
يجب أن تصبح مهارات تقديم وقبول النقد والتوجيه وتعديل السلوك ممارسات طبيعية، يتقبلها الجميع بصدر رحب ودون حرج، ويستقر في فكرهم ووجدانهم أن النقد البناء واللوم الصحيح لا ينقصان من قيمتهم
قال صديقي: ولكن كيف يتحول هذا النقد بهذه المواصفات إلى سلوك طبيعي، يمارس في حياة أفرادنا، وبيوتنا، ومجتمعاتنا، ومؤسساتنا؟
قلت: يا صديقي العزيز، هذا يحتاج منا أن ننشر هذه التربية القرآنية العظيمة، بأن نتواصل مع جميع المؤثرين في بناء المجتمع، مثل المربين والإعلاميين، وواضعي المناهج التعليمية، والأئمة والخطباء، وقادة الرأي والفكر، لنحثهم على بذل جهودهم المتنوعة لتأكيد هذه المعاني، حتى يتعودها الأب والابن، والمدير والموظفون، والقائد والجنود، والرئيس والمرؤوس وكل إنسان؛ فتصبح مهارات تقديم وقبول النقد والتوجيه وتعديل السلوك ممارسات طبيعية، يتقبلها الجميع بصدر رحب ودون حرج، ويستقر في فكرهم ووجدانهم أن النقد البناء واللوم الصحيح لا ينقصان من قيمتهم، بل يرفعانهم الدرجات إذا استفادوا فطوروا أنفسهم، وارتقوا بسلوكهم، وانعكس ذلك نفعا لأنشطتهم ومجال قيادتهم، وللحياة العامة، بما يرضي ربهم عليهم.. ورحم الله القائد العظيم عمر بن الخطاب الذي رفع ذلك شعارا لدولته فقال: "رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.