هذه أول مرة يبدو فيها قاع السد وقد انحسر الماء في بحيرة قريبة من نفزة، ظلت لعشرات السنين طافحة بالمياه العذبة..
هكذا حدثني الناشط رضا الطبوبي في طريقنا لشط الزوارع خلال إحدى زياراتي الأخيرة لعدد من مدن الشمال الغربي، حيث لمحتُ مظاهر الجفاف، ورأيت بأم عيني مشاهد مرعبة لسدود انحسرت فيها المياه، وتراجع منسوب المخزون فيها..
منذ عام 1995 دخلت البلاد طور العجز المائي، وبعد سنوات بلغت مستوى الإجهاد بمعدل يتراجع كثيرا عن مستوى 500 متر مكعب للفرد الواحد، وباتت تناهز ثلث الحد المطلوب
الماء يتبخر إلى حدود قياسية تجاوزت 660 ألف متر مكعب في أحد أيام شهر يونيو/ حزيران 2024، مع توقعات جوية من هيئة الأرصاد وخبرات المناخ، تنذر بموسم صيفي هو الأكثر سخونة في تاريخ البلاد.
الماء، سبب الحياة ومصدرها الرئيسي، استحال كابوسا في مدن منها صفاقس، حيث يتذمر السكان من رداءة ماء الشرب القادم من الشبكة العمومية الموزعة على البيوت، فيما يردد البعض الكلام عن احتمال قطع الماء لفترات محددة خلال الصيف، وتتعالى أصوات تنادي بترشيد الاستعمال والحد من الاهدار والتبذير.
يحدث هذا رغم أن البلاد عرفت خلال فترة ما بعد الاستقلال إنشاء منظومة مائية متطورة، قادها بالخصوص عامر الحرشاني مهندس المياه الأبرز وكاتب الدولة الأسبق للمياه، صحبة خبراء وكفاءات بينهم علي الجبالي، وتعتمد شبكة تعبئة موارد تقليدية من خلال عشرات السدود التي تستوعب كميات من مياه الأمطار، غير أن مشاكل متوترة متواصلة أظهرت مظاهر قصور وتراجع وترهل في تلك الشبكة.
فمنذ عام 1995 دخلت البلاد طور العجز المائي، وبعد سنوات بلغت مستوى الإجهاد بمعدل يتراجع كثيرا عن مستوى 500 متر مكعب للفرد الواحد، وباتت تناهز ثلث الحد المطلوب، واستمرت إشكالات التصرف وتوزيع المياه رغم محاولات اعتماد حلول وبدائل جديدة، منها معالجة المياه المستعملة، واعتماد المعالجة الثلاثية لمياه الصرف الصحي، واستخدامها في الري السياحي والترفيه، وبعض الزراعات العلفية وغيرها.
وتتواصل ظاهرة الأزمة المائية في التفاقم مع امتداد المشاكل المناخية التي تضرب تونس، البلد الهش في منظومته وموارده، وخاصة بسبب تقلص فترات الأمطار، وانعكاسه المباشر على المحاصيل الفلاحية الزراعية وحجم الإنتاج الزراعي، وخاصة من الحبوب.
دلائل كثيرة متطابقة تؤكد استمرار زحف الصحراء وهيمنة الجفاف وتراجع الخضرة عن وجه بلد اُطلق عليه قبل آلاف السنين تونس الخضراء
تعود صور الجفاف على ضفاف نهر مجردة المنساب من الجزائر، لتشير قتامة المياه الممتزجة بالوحل والغرين بسبب التراجع الحاد في المنسوب، والانخفاض في العائد والكميات المتاحة للري، إلى مستوى الشح والفقر المائي، وضرورة التكيف ومواجهة تداعيات العطش.
والماء الذي كان نبع الحياة بات فقدانه نقطة تحول حاد في طبيعة الحياة في ربوع الخضراء، ومنعرجا وانعطافا مصيريا في مسار العلاقة مع فرص البقاء والنماء. حيث تعود مناطق شاسعة جرداء بعد أن جرت محاولة إنعاشها قبل نصف قرن. ويُدعى كثير من المزارعين للتدريب على فنون قتال كارثة الجفاف والتصحر، الذي يضرب أقصى الشمال في بلد مناخه قاحل وشبه قاحل.
دلائل كثيرة متطابقة تؤكد استمرار زحف الصحراء وهيمنة الجفاف وتراجع الخضرة عن وجه بلد اُطلق عليه قبل آلاف السنين تونس الخضراء.
ورغم الإقبال على استهلاك مليارات عبوات المياه المعدنية، التي توفرها نحو ثلاثين شركة، لاستغلال ثروة مائية باطنية عذبة، فإن شبح العطش يتمدد، وكابوس الأزمة المائية ينتفخ على حساب نعمة باتت رمزا للخطر محدق بسلامة البشر، واستمرار النمو الزراعي في ظل تغير مناخي متوحش يكشر عن أنيابه، وينذر بإلحاق مزيد من الأذى بالتونسيين، وتكبدهم خسائر مؤلمة لا حد لها على صحتهم وسلامتهم، مع تزايد محاذير تراجع جودة العيش، بل وأمنهم الغذائي واستمرار حياتهم.
نسي الجميع وتناسى البعض أن الأجداد الرومانيين هندسوا قنوات معلقة حولت المياه من زغوان إلى قرطاج، واحتفظت الذاكرة ببقايا الحنايا المتأبية على الانطماس، الصامدة كالأطلال
في تونس، أصبحت قطرة الماء كنزاً عظيماً، يشعر الكثيرون أنه يضيع مع الأيام ولا يمكن استعادته.. هل خلفت النار رمادا؟
واهتم بعض الأجانب في مكاتب ومنظمات برصد المخزون الآتي، وتحركت أطراف ما لإحصاء المتاح والمخزون المتبقي من الذهب الشافي المهدَّد بالنفاد في إطار استباق حرب الماء الوشيكة.
نسي الجميع وتناسى البعض أن الأجداد الرومانيين هندسوا قنوات معلقة حولت المياه من زغوان إلى قرطاج، واحتفظت الذاكرة ببقايا الحنايا المتأبية على الانطماس، الصامدة كالأطلال.
ولم تحرك العقول والمشاعر حال معبد المياه الناضبة عيونه في قلب زغوان، وهي محطة للسياحة ومتنزه للأسر وعشاق الترفيه البيئي والسياحة الإيكولوجية.
وفي منطقة قاحلة وسط بلد جاف وشبه جاف، تبقى مكاسب المنظومة المائية إرثاً عظيماً قد يندم الناس على تبديده أيما ندم، ويبكي عليه كثيرون بدلاً من الدمع دما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.