اللهجة التي تحدثت بها "تريسي آن جاكوبسون"، المرشحة كسفيرة لتمثيل الولايات المتحدة في العراق، أثناء توضيح تصوراتها أمام الكونغرس في 15 يونيو/ حزيران الجاري، كانت شبيهة بلهجة يعرفها العراقيون، وترتبط بالتاريخ المَحكيّ المُتناقَل عندهم.
دعواها أنك إذا أردت إخضاع العراقيين من بداية حكمك فعليك أن لا تكون ودوداً معهم في الكلام، لا سيما في أول خطاب يسمعونه منك ويتعرفون من خلاله عليك.. هذا ما يقال بشأن سلوك الحَجّاج وغيره، فالقوة أقرب إلى المزاج العراقي من العقل والتفاهم، خاصة إذا كان التفاهم فيه شيء من الإكراه لهم، أو كان مُرفقاً بالتهديد المبطَّن أو المباشر.
كلمتها الملأى بالتهديد تناغمت مع تصريحات للسفيرة "إيلينا ريمانوفسكي"، التي تنتظر المغادرة، ثنَّت بها حديث زميلتها بأن أميركا تواجه الجماعات الخبيثة -حسب وصفها- القريبة من إيران.
الولايات المتحدة الأميركية لا تتصرف في هذه الحرب على غزّة وفقاً للأصول المرعية دولياً، وإنما على هواها ووفق ما تشتهي وما تراه من مصلحتها، فهي القوة التي تقود ولا اعتبار عندها للقانون
هي حرب سِجال بين طرفين، أخذت مداً وجزراً، مرّت بمحطات عديدة وطويلة، يتفاهم الطرفان أحياناً بتدخل من رئيس الحكومة العراقي محمد السوداني، ثم تعيدهما تطورات المنطقة إلى البداية، لكن العلاقة أساسها هشَّ، وهي متحركة مؤسسة على الرّمال وغير قابلة للاستقرار، فهما مختلفان من البداية إلى النهاية، وبما أن المصلحة عاجزة عن جمعهما بسبب حجم الهُوّة الفاصلة بينهما، فإنّ المرحلة التي تمرُّ بها العلاقات بين المجموعات المسلحة والأميركيين تتميز بالتالي:
- الوقوف اللامشروط والدعم غير المحدود الذي تقدمه واشنطن إلى إسرائيل في عدوانها على غزة، واشنطن كسرت كل القواعد المرعية دولياً، لم تلتزم بسلوك المؤسسات الدولية الغربية التي هي من مؤسسيها، خرقت القوانين التي تحكم العلاقات الدولية ولم تبخل بتزويد إسرائيل بالبارود القاتل والسلاح المدمّر، ليس للعمران فحسب وإنما لقيمة الإنسان أيضاً.
أي إن الولايات المتحدة الأميركية لا تتصرف في هذه الحرب على غزّة وفقاً للأصول المرعية دولياً، وإنما على هواها ووفق ما تشتهي وما تراه من مصلحتها، فهي القوة التي تقود ولا اعتبار عندها للقانون، لأن القانون لا يتوافق مع ما تريد ولم يعد يسعفها. فالرسالة للعراقيين وغيرهم مفادها أن الالتزام بالقانون على المستويين المحلي والدولي ما هو إلا الطاعة لما نصدره نحن من الأوامر، التي تكتسب الشرعية لأنها صادرة عنّا.
المجموعات المسلحة لا تكترث بالتهديدات الأميركية في هذا المجال، لأن المعركة "عضوية" بالنسبة لها كما هي بالنسبة لأميركا، ولم تعد نداءات حقوق الإنسان تجدي، ولم يعد التهديد بالمنظمات العدلية الدولية يجدي
وفي حالة الحرب فإنّ أميركا لا تتقيد بقيد، ولا تلتزم بما يلزم، وهي الآن ترى أن مصلحتها لم تُهدّد في الشرق الأوسط كما هي الآن، بسبب وقوع إسرائيل بين فكي الكماشة، وظهور عوارها وهوانها وضعفها، وعجزها عن الانتصار على قوة مسلحة ثائرة.
- إن المجموعات المسلحة، التي ترسل المسيرات -كما تقول- إلى داخل الأراضي المحتلة، شرعت بتهديد المصالح البريطانية والأميركية في بغداد، ففي تحركات سريعة هاجمت مجموعات منظمة منشآت مدنية أميركية بريطانية، وماركات مشهورة ترمز إلى الهيمنة الأميركية في الجانب المدني، كما هي مهيمنة سياسياً وعسكرياً، ومعاهد تعليم اللغات.. هذا نوع جديد من التعرض للمصالح الغربية في العراق لم يحدث من قبل.
- إن ساحة المعركة تجاوزت العراق، أميركا تنظر الآن إلى تحركات المسلحين العراقيين على أنها تأتي منسجمة مع تحركات حزب الله والحوثيين، ومهما حاولت منع الأطراف الأخرى من المشاركة في هذه الحرب فلن تفلح، والأمور متجهة نحو الخروج عن السيطرة بسبب تعنت نتنياهو من جانب، ووحدة الهدف بينه وبين بايدن من جهة ثانية.
إن هذه المجموعات المسلحة لا تكترث بالتهديدات الأميركية في هذا المجال، لأن المعركة "عضوية" بالنسبة لها كما هي بالنسبة لأميركا، ولم تعد نداءات حقوق الإنسان تجدي، ولم يعد التهديد بالمنظمات العدلية الدولية يجدي، ولم يعد اللجوء إلى طغيان مجلس الأمن يجدي، لأن الولايات المتحدة الأميركية -وببساطة- تخطتها كلها، وبالتالي لم تعد تلجأ إليها، أو تتحدث في إطارها، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن المؤسسات الدولية تلك لا تغرّد وفق الشهوات الأميركية، فهي معها في مواجهة مرئية ومسموعة.
السفيرة الجديدة -التي لم تباشر عملها بعد- لم تجد الوجه العراقي المرحِّب لما أدلت به من كلمات، وما أرسلته على الهواء إلى العراق من تهديدات
- إن إيران -ورغم الضربات التي تلقتها- لم تتراجع، ومن غير معلوم عند أي حد يمكن أن تتوقف عن مواجهة استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط وإن لم تتراجع. ربما يرى الإيرانيون العكس، ربما يرون أن هذه الأوضاع الناشئة الآن هي أكثر من مناسبة للثبات على الاستراتيجية المرسومة منذ عقود، والتي دفعت أثماناً باهظة من أجلها، وقد تكون هذه المواجهة هي الأولى بين طهران وواشنطن من حيث شمولها كل الأرض المتاحة، لم تعد محصورة داخل العراق، ولا أحد يشك بقرب هذه المجموعات العراقية من إيران.
- مما هو واضح -ونظراً للوضع الدستوري في العراق- أن هذه المرحلة ليست مقلقة كثيراً بالنسبة لهذه المجموعات المسلحة، لأن الحكومة موجودة ولا يحتاجون إلى تهديد السفارة أو استرضائها من أجل امتلاكها، والانتخابات ليس موعدها قريباً، والاقتصاد ليس بأيديهم، والاغتيالات لم توقفهم، وبالتالي فإن المواجهة دائبة، وإن لم تكن حامية ومالت أحياناً إلى البرود.
من الداخل، إنّ السفيرة الجديدة -التي لم تباشر عملها بعد- لم تجد الوجه العراقي المرحِّب لما أدلت به من كلمات، وما أرسلته على الهواء إلى العراق من تهديدات، رأوا فيها حديث جنرال عسكري لا لغة دبلوماسية، جعلت نذر المواجهة عالية.
هي ربما تسعى بذلك إلى السلام وإيقاف التوتر، لكن رئيس الحكومة هو أكثر من يعاني من الضغط المتبادل بين الطرفين، والسفيرة تحدته أولاً لأن كلماتها أوحت بأنها ذاهبة إلى منطقة حرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.