رحل قبل أيام الباحث الجامعي الدكتور، سمير حمزة مدير المعهد الوطني للعلوم التطبيقية، ولم تقم الدنيا ولم يدرك الناس حجم الفقد وهول الفجيعة.
عرفت سمير قبل ربع قرن باحثا طموحا ومخترعا شابا عاد للتو من اليابان، وانخرط في سلسلة من التجارب المجددة لحل مشكلات منها علاج العضام في معهد القصاب لتقويم الأعضاء في ضاحية منوبة.
وانضم سمير لمعهد العلوم التطبيقية الذي شهدت نشأتها أواسط التسعينات، وكان رئيس مشروع بناته الأستاذ محمد عمار، يطوف بين وسط غابة الزياتين ويتعود أنه سيكون أم المدارس الهندسية وبوتقة لتخرج أعظم مهندسي الدولة واشغالها الكبرى.
لا أنسى حديث زويل عن رحلته في التحصيل من مصر إلى أميركا، وتهافت المخاطر البريطانية والأميركية على استقطابه بإغراءات مالية خيالية.
أذكر أن همي أنساك مصير شجرات الزيتون، ولكن مخاوفي سرعان ما سكنت حين أكد أنه سيتم نقلها بعناية إلى مكان آمن.
وعلا بنيان المعهد بتمويل فرنسي سخي، واستضاف أواخر التسعينات الباحث المصري أحمد زويل جائز جائزة نوبل في الفيزياء، حظيت بحضور اللقاء مع زمرة من أهل العلم من الجامعة التونسية ومخابرها ولا أنسى حديث زويل عن رحلته في التحصيل من مصر إلى أميركا، وتهافت المخاطر البريطانية والأميركية على استقطابه بإغراءات مالية خيالية.
روى زويل يومها بعضا من جولات رحلته العلمية وطريقها الطويل قبل نوبل، ومما أشار إليه أن الباحث هناك لا ينشغل بتفاصيل المعدات اللوجستية وأعمال الأعوان، فقد تجند لمساعدته نحو ثلاثمائة مهندس وآلاف الفنيين والأعوان، ولم يكن همه سوى البحث والتجديد والابتكار.
كنت وقتها قد أصدرت كتيبا بعنوان: البحث العلمي التنموي في تونس وهو جماع تحقيقات صحفية أجريتها خلال سنة كاملة، في جل مراكز البحث ومخابره المنتشرة على طول البلاد وعرضها، نشرتها صحيفة يومية.
وحضرتني في غضون شهادة المحتفى به نفاثات كبار الباحثين التونسيين، وبينهم فيصل الهنتاتي ودهماني فتح الله، الذين شكلوا قلة العناية وضعف الدعم وطول حبال البيروقراطية.
وانتهى المسار بالباحث فيصل صاحب الاكتشاف الجيني للمغادرة للقطاع الخاص، وبالدهماني فتح الله رئيس جمعية علوم الوراثة ذات الخمسمائة غضو من جامعات الدنيا في أميركا والذي ضاق ذرعا بالفضاء الخانق الذي خصص له في معهد باستور وبما لقي من مظاهر فساد بالرجوع لأميركا.
لم يكن عهد البشير التركي الرئيس التونسي للوكالة الدولية للطاقة الذرية وما لقيه من تهميش وتضييق من السلطات ببعيد.
تزداد تلك الأسئلة حرقة مع حجم نزيف هجرة الأدمغة الذي تضاعف مع انطفاء شموع الربيع العربي وتزايد وطأة الجور.
شذرات متنأثرة وصور معبرة عن واقع حزين للبحث العلمي وأهله في كثير من بلادنا العربية التي ما تزال تخصه بدعم مالي رمزي بسيط. وآهات حرى على نخبة رائدة متحفزة مجدفة ضد تيار الواقع القاسي وقلة العناية والدعم.
النسب والأرقام وحال التجهيزات والمختبرات في بلادنا تشي باستهانة مخزية بالباحثين، وهو ما ينعكس قطعا على معدلات براءات الاختراع ونسبها، ويطرح أسئلة موجعة في حال المقارنة بحال دول من بينها إسرائيل.
كل الدلائل تؤكد أن واقع الباحثين عندنا محكوم بتبعية للغالب والارتهان له في كل الحلول والحاجيات وأنها مسالة عقلية وقناعة غائبة بكفاءة البحث وقدرته على دفع قطار التنمية.
وتزداد تلك الأسئلة حرقة مع حجم نزيف هجرة الأدمغة الذي تضاعف مع انطفاء شموع الربيع العربي وتزايد وطأة الجور.
وتتبدد آخر الشكوك وتهوي تعلم الإمكانيات مع ما يلقاه الفنانون والراقصات والمهرجانات من دعم مالي سخي يسخر جانب منه بالعملة الصعبة لتنظيم سهرات الصيف الماتعة العابرة.
لا يجدي العويل، ولكنها زفرة متجددة ماتزال حبيسة باحثين يذوون في صمت، ويتحرقون شوقا لخدمة أوطانهم، ولكن ما حيلتهم.
رحل سمير، وبقي مئات يحفرون في الصخر وسيسعون ما شاء الله لهم في متاهات التنقيب والتجربة في أقبية معتمة لا تثير الاهتمام ولا تلتفت لها الأضواء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.