شعار قسم مدونات

أهل الحل والعقد!

ميدان - هارون الرشيد
منذ أن وصلت إلى الحكم قبائل قريش المتنافسة وجدنا أن حكم المتغلب هو الذي ساد (مواقع التواصل الاجتماعي)

يتكرر كثيرا مصطلح "أهل الحل والعقد" في معرض الحديث عن الشورى عند المسلمين، وخاصة في باب المدح، لكنْ ليس هناك -فيما أعلم- ضبط حقيقي للمصطلح، بل لعلي أجده مصطلحا سائلا.

وإذا استعرضنا الخلافات الإسلامية بعد الراشدين، فإننا لن نجد أن حكاية أهل الحل والعقد هذه قد منعت الحكم الجبري الذي ساد، اللهم إلا باستثناءات قليلة على مستوى بعض الخلفاء، مثل عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه.. ونرى محاولات لوضع خصائص يُختار على أساسها أهل الحل والعقد، ولكن ما الفائدة منها إذا لم تُفرض على أهل الحكم؟

رشّح أبو بكر عمرَ للناس فلم يتخلف عنه أحد، فكأنما صادق أهل المدينة على ترشيح أبي بكر، ثم ارتضى أهل الأمصار بيعة أهل المدينة

من المضحك أن بعض الأنظمة، التي أظهرت تعلقا بالإسلام في العصور المتأخرة، تنتقد نظام الانتخابات لأنه يأتي بأمثال بايدن وترامب وريجان، ثم يمتدحون النظام الإسلامي الذي يقوم في أساسياته على أهل الحل والعقد. ولعل هؤلاء يستدلون باجتماع سقيفة بني ساعدة، والواقع أن قوة ذلك الاجتماع هي ما يُمكن أن يؤخذ عليه، فهو اجتماع لم يكن يمثل كل المسلمين، ولكن نقطة الضعف هذه أصبحت نقطة القوة فيه حين ارتضاه مجتمع أهل المدينة، أي المجتمع الفاضل، ولكن -للأسف- فإن كثيرا ممن انضموا إلى رعوية دولة الإسلام لم يرتضوه، وجعلوا عدم رضاهم به بوابة للردة.

إعلان

اجتماع السقيفة مثّل مجلس طوارئ في ظل غياب إمكانيات التواصل، وما كان مستطاعا أفضل من ذلك، أما مخرجاته فكان الرضا عنها واضحا، إذ إن أهل المدينة -مركز الدولة الإسلامية- قد وافقوا عليها بناء على سيرة صاحبه، رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية الصديق لم يتكرر مثلها عبر التاريخ، ورغم ذلك رأينا ظاهرة الارتداد التي حدثت رغم خطاب الصديق، الذي كان من أوفى ما قيل في شؤون الحكم الراشد.

رشّح أبو بكر عمرَ للناس فلم يتخلف عنه أحد، فكأنما صادق أهل المدينة على ترشيح أبي بكر، ثم ارتضى أهل الأمصار بيعة أهل المدينة.. وعمر عندما حانته المنية رشح الستة الأحياء من العشرة المبشرين بالجنة، وأضاف إليهم ابنه عبد الله، لا لقرابته ولكن لفقهه، على أن يكون مرجحا وليس له حق في الخلافة، ورغم بعض التحفظات فإن أهل المدينة والأمصار لم يتخلفوا عن بيعة عثمان رضي الله عنه.

المشاهد التي ذكرناها هي مصدر فكرة أهل الحل والعقد، التي جاء بها فقهاء السياسة الشرعية فيما بعد، ويكاد الاسم يعبّر عما يمكن اعتباره اليوم بالطبقة السياسية، وهي -كما يعرّفها الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه "أساسيات في نظام الحكم في الإسلام"- نخبة من نخب المجتمع تهتم بالشأن السياسي، وتأخذ الدور الأكبر في تحريك المشهد وتطويره، كما أنها تشكل نوعا من ضمانة استقراره وتماسكه.. لم يكن هناك مدلول محدد لأهل الحل والعقد، فمن قائل إنهم علماء الشريعة أو أهل الخبرة، ومن قائل إنهم وجوه الناس وقياداتهم، أما ابن تيمية فيرى أنهم ولاة الأمر من نواب ذوي السلطان ورؤساء الجند وولاة الخراج.. إلخ. وهكذا نرى أن مفهوم أهل الحل والعقد لم يحظ بالبلورة المطلوبة، وكان هذا لغياب مؤسسة تؤطِّرهم أو نظام يوجه عملهم، وأيضا بسبب انعدام وجودهم بعد حقبة الخلفاء الراشدين.

ومنذ أن وصلت إلى الحكم قبائل قريش المتنافسة، وجدنا أن حكم المتغلب هو الذي ساد.. "حكم المتغلب" هو الوصف الذي أطلقه ابن خلدون على نمط الوصول إلى الحكم ثم جبْر الرعية عليه. مسمّى أهل الحل والعقد لم يكن إلا نظرية يدور الحديث عنها في كتب السياسة الشرعية، وليس لها حظ من التطبيق.

 

ذكر أهل السياسة الشرعية مواصفات، منها العدالة والعلم والرأي والحكمة والفطنة والذكاء والصدق، وأن يسلموا من التحاسد والتنافس بينهم، وأن يسلموا من معاداة الناس وبغضهم، وألا يكونوا من أهل الأهواء

المشكلة الأساسية في مسألة أهل الحل والعقد تكمن في تنظيم عملهم؛ فكيف يُصار إلى اختيارهم في بلدان فيها ملايين البشر، وليس فيها مدينة مثل المدينة المنورة في العهد الراشدي تنوب عن باقي المدن، لأن لها سابقة وفضل وفقه لا يختلف عليه أحد؟ ثم ما هي مواصفاتهم؟

إعلان

ذكر أهل السياسة الشرعية مواصفات، منها العدالة والعلم والرأي والحكمة والفطنة والذكاء والصدق، وأن يسلموا من التحاسد والتنافس بينهم، وأن يسلموا من معاداة الناس وبغضهم، وألا يكونوا من أهل الأهواء.. ويعلق بكار أن كل هذا يدل على أن ما يتحدث عنه العلماء هو شيء غير موجود في الواقع، ولعلهم يتحدثون عن شيء تاريخي سمعوا عنه ولم يروه.

وإذ نلاحظ هنا أن علماء السياسة الشرعية أسموهم أهل الحل والعقد، وهم قد عقدوا الخلافة لأبي بكر وعثمان، لكنهم لم يحلوا عقد الخلافة عن أحد، ما يعني أن العلماء كانوا يضعون في حسبانهم أن هؤلاء يحلون ما عقدوه، ولكن لأنه -للأسف- لم يتقعد للأمر قواعد فإننا بقينا في حدود الكلمة.

يخلص بكار بعد مناقشة موضوع أهل الحل والعقد إلى أن الوسيلة الأسلم اليوم لاختيار أهل الحل والعقد هي الانتخابات رغم عيوبها، ورغم إمكانية إيصال غير أكفاء إلى مجالس الشورى، ولكن البديل عن الانتخابات هو الاستبداد.

وللحديث بقية بإذن الله..

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان