الدولة الإله التي أنتجها النظام العلماني، والتي تسيطر على كل تفاصيل حياة مواطنيها؛ هي في أحسن أحوالها، تصنع مسارات لحركة المجتمع، للتفكير، للإبداع، للعمل الجماعي، هذا في حال كنا نتحدث عن تطبيقاتها الغربية المتقدمة، أما ما يحدث في الشرق الأوسط، لا يعدو كونه دولا علمانية مشوهة، ذات مسارات مشبوهة، وربما قاتلة في حال ظننت أنها مجرد مسارات، وليست عبارة عن قوالب جاهزة، لا يسمح لها بتخريج إلا نوعا واحدا؛ متمثلا في المواطن المستقر المستسلم الأسير.
لطالما تساءلت عن جدوى هذا الجمع الكبير من المهاجرين الأفارقة الذين يجتمعون فيها ليل نهار، يفرزون، ويصنفون ويتقاسمون أكياس القمامة ومخلفات المنازل والمحلات والورش، ويقفزون برشاقة في صندوق كل سيارة يؤمل أن ينال منها أكبر قدر من المخلفات الصالحة للتدوير
إعادة تدوير القمامة أصبحت صناعة متطورة جدا، تمثل دخلا لا بأس به لدول العالم الأول، فوق أنها تحل المشاكل البيئية، هل تتصور أن دولا كالسويد والنرويج وصل بها الحال لاستيراد القمامة من الدول المجاورة، بعد أن نجحت في تحويلها لمصدر طاقة؟
هذا مثال لا بأس به للدول التي تتحكم حتى في قمامة مواطنيها، ولا تسمح لهم بالتصرف فيها بعشوائية، ينحدر الحال كلما ابتعدت عن دول العالم المتقدم، لتصل إلى دول أكبر إنجازاتها هو تكويم قمامتها بعيدا عن الأرصفة والمحلات والحدائق، لتصنع منها جبالا شاهقة؛ أملا أن تنتهي حياة مسؤوليها قبل أن يزحف التوسع السكاني إلى مضارب جبال القمامة، فإذا كنت أنت من الجيل التالي، فلعل نسمات القمامة المليئة بالحشرات اللاسعة أصبحت تداعب بشرتك كلما تحركت الرياح، وقد رماك الانفجار السكاني جنوب أو شمال جبال القمامة
في أحد مكباتنا العامرة، لطالما تساءلت عن جدوى هذا الجمع الكبير من المهاجرين الأفارقة الذين يجتمعون فيها ليل نهار، يفرزون، ويصنفون ويتقاسمون أكياس القمامة ومخلفات المنازل والمحلات والورش، ويقفزون برشاقة في صندوق كل سيارة يؤمل أن ينال منها أكبر قدر من المخلفات الصالحة للتدوير، ثم أضحت ملامح صناعة متكاملة ترتسم معالمها في تلك الطريق، صناعة أنتجتها الظروف، وهيئت لها تلك المسارات أسواقا وأنظمة، هي بالفعل خارج نطاق مسارات الدولة، فقد نمت محلات تجميع الخردوات على جانبي الطريق..
وأصبحت ترى تجارة إعادة التدوير في كل مراحلها أمام عينيك، تبدأ من مجرد وقوفك أمام المكب، ثم انتشال القمامة من صندوق سيارتك دون حتى أن تكلف نفسك النزول، ثم تسير لترى الخطوة التالية متمثلة أمامك في عمال آخرين يتوجهون بمكاسب اليوم وربما الأمس، لتلك المحلات، يزنون الحديد، ويلفون الورق، ويجمعون الأخشاب، ويكومون اللدائن، وبمجرد وصولك للطريق المزدوج، لا تعدم رؤية شاحنة قد تنظم عليها صنف من تلك الخردوات على شكل صناديق، لعلها تسير لتتجمع في مكان آخر، أو ليصل بها الحال أخير لذاك الميناء، فتعبر إحدى البحار، وترجع لنا مرة أخرى على شكل بضاعة؛ نشتريها بالعملة الصعبة، ونستهلكها، ثم نعيدها لمكب القمامة.
المجتمع قادر بالفعل على خلق التوازن، وإيجاد الفرص، وصناعة قطاع خاص قوي، ونشاط مجتمعي فعال، فقط لو تحقق التوازن، بين دولة تقوم حركة المجتمع، ولا تقيدها، توفر لها بيئة الأمن والاستقرار، وتسهل حركتها، وتقوم اعوجاجها
الشاهد هنا، أنه حينما اشتدت قبضة الدولة في المثال الإسكندنافي نظمت عمل إعادة التدوير، وعندما ارتخت القبضة عندنا، نظم المجتمع نفس العملية، بكل تأكيد كانت إدارة الجودة في عمليتي إعادة التدوير متباينة للغاية، وهذا لأننا نتحدث عن دولة علمانية متقدمة، ودولة علمانية مشوهة، ولا نتحدث عن نظام آخر.
المجتمع قادر بالفعل على خلق التوازن، وإيجاد الفرص، وصناعة قطاع خاص قوي، ونشاط مجتمعي فعال، فقط لو تحقق التوازن، بين دولة تقوم حركة المجتمع، ولا تقيدها، توفر لها بيئة الأمن والاستقرار، وتسهل حركتها، وتقوم اعوجاجها، مجتمع يتماسك حتى لو انهارت الدولة، ويعيد بناء نفسه، فلسفة مجتمعية وسيطة بين الدولة الإله، والدولة الغائبة، دولة بها اقتصاد حقيقي، وتكامل مجتمعي، وتوازن طبيعي غير مشوه.
فلسفة استطاع يوما ما النظام الإسلامي صناعتها، عبر مجتمع متوازن، تتجلى قوته في المؤسسات الوقفية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، لترمم ثغرات المجتمع، وتقيل عثراته، بينما توفر الدولة الأمن؛ وتفك النزاعات، وتصون الثغور، قبل أن تزحف عليها الدول العلمانية المشوهة، وتحول كل المؤسسات المجتمعية المستقلة؛ إلى جزء مستباح من مؤسسات دولة مشوهة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.