يمتد الحراك الطلابي في سوريا عقودا طويلة، وكان انعكاسا لكثير من التفاعلات التي جرت في البلاد نتيجة التغيرات الدولية والإقليمية خلال أكثر من قرن. وقد تميز هذا الحراك بالمرونة والحماس والاندفاع، ورغم أنه لم يكن له خط تصاعدي واضح نحو النضوج والرسوخ المؤسسي، بل كان متأرجحا بين الصعود والخمود، حسب الظروف والإمكانات، إلا أنه لم يتوقف، ولم ينطفئ حتى في أشد مراحل الدول السورية ظلمة، وهي مرحلة استبداد نظام البعث، التي حرمته من فرصة المأسسة الصحيحة التي تجعله قادرا على التأثير العميق في مجريات الأحداث في البلاد.
غير أن اندلاع الثورة السورية عام 2011 كان بمثابة فرصة للحراك الطلابي من أجل إعادة الزخم لطاقات الشباب السوري، التي تنتظر الاستثمار الصحيح لها.
في سوريا (الكبرى) كان للشيخ طاهر الجزائري تأثير على الطلاب والمثقفين، وراح يبث أفكاره المنادية بالإصلاح والتحرر والنهضة العربية بينهم، مما جعل له شهرة كبيرة في كل بلاد الشام.
البداية في أواخر الدولة العثمانية
بدأ الحراك الطلابي في سوريا في أواخر الدولة العثمانية، ورغم أن التعليم في ذلك العصر لم يكن جيدا بما فيه الكفاية، فالجهل كان عاما، والأمية منتشرة في كل مكان، والمدارس قليلة، والمدرسون غير أكفاء، إلا أن الطلبة كان لهم نشاطهم اللافت، خاصة من كانوا يدرسون في الأستانة أو أوروبا، والذين عاصروا الأفكار والآراء الّتي كانت تدعو لإصلاح الدولة العثمانية، وتنتقد الاستبداد والمركزية في الحكم، وتطالب بحق العرب في إدارة الدولة.
وفي سوريا (الكبرى) كان للشيخ طاهر الجزائري تأثير على الطلاب والمثقفين، وراح يبث أفكاره المنادية بالإصلاح والتحرر والنهضة العربية بينهم، مما جعل له شهرة كبيرة في كل بلاد الشام. وعندما غادر الشيخ طاهر دمشق متوجها إلى مصر للإقامة فيها، خلف وراءه ثورة فكرية تسري تحت الرماد، وسرعان ما وجدت هذه الثورة متنفسا لها في الانقلاب العثماني سنة 1908م، الذي تم من خلاله إعلان الدستور.
لكن بعد تسلم الاتحاديين السلطة، وانتهاجهم سياسة التتريك وقمع كل من يخالفهم، تبخرت أحلام الإصلاح، وانتقل تفكير الطلاب إلى الثورة والاستقلال. وكما نقل عن الشيخ طاهر فإنه لم يبتهج بشيء مثل ابتهاجه بالثورة العربية التي قامت من أجل استقلال العرب، وقد انتقل هذا الإبتهاج إلى طلابه والمؤمنين بأفكاره من الشباب والطلاب الجامعيين، الذين كانوا قد مارسوا نشاطهم عبر تأسيس التجمعات والجمعيات التي كان معظمها سريا في ذلك الوقت، والتي كان هدف تأسيسها الرئيس المطالبة باللامركزية في الحكم، والمطالبة بحقوق العرب في الدولة العثمانية، خاصة مع تصاعد حركة التتريك.
عندما ظهرت الحركة القومية التركية قوية بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، بدأ طغيان أعضاء جمعية الإتحاد والترقي يتعاظم، وحاولوا بسط قوميتهم على عموم البلاد العثمانية، وتجاهلوا حق باقي الشعوب التي تخضع للدولة من بعث قوميتهم
أول مجهود طلابي
ظهر أول مجهود طلابي عربي من أجل إحياء القومية العربية في عام 1875م، عندما ألف مجموعة من الطلاب الشباب في بيروت جمعية سرية، نشرت مجموعة من المنشورات التي فضحت مساوئ الحكم التركي، ودعت العرب إلى القيام بثورة لتحطيم الظلم والاستبداد.
وحاولت هذه المنشورات أن توحد بين العرب، حتى لا يقعوا فريسة بين براثن الاستعمار الأجنبي، وذكرتهم بمجدهم السالف، وبضرورة العمل على إعادته. لم يتجاوز هذا النشاط مكانه، لكنه كان معبرا عن حركة بدأت تتعاظم في تلك الفترة، نتيجة ضعف الدولة، وتدخل الدول الأوروبية والاستعمارية فيها.
وعندما ظهرت الحركة القومية التركية قوية بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، بدأ طغيان أعضاء جمعية الإتحاد والترقي يتعاظم، وحاولوا بسط قوميتهم على عموم البلاد العثمانية، وتجاهلوا حق باقي الشعوب التي تخضع للدولة من بعث قوميتهم، أو المشاركة في إدارة الدولة، مما أيقظ الشعور القومي عند شعوب كثيرة كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، مثل العرب والأرمن واليونان والأكراد، الذين بدؤوا يطالبون بحقوقهم، يحفزهم على ذلك الدول الغربية التي كانت طامعة بثروة الرجل المريض.
وشعر مفكرو العرب، خاصة السوريون منهم، وفي مقدمتهم الطلاب المدنيون والعسكريون الذين يدرسون في استانبول العاصمة، بالحس الوطني القومي، فألفوا الجمعيات السرية التي تنادي بالقومية العربية، وطالبوا بالحكم اللامركزي في سوريا والعراق، واستعمال اللغة العربية في المدارس ودور الحكومة والقضاء.
كان النشاط الطلابي في سوريا أواخر الدولة العثمانية يركز بداية على الإصلاح، ثم تركز على المطالبة بحقوق العرب في إدارة الدولة، حتى تحول أخيرا للمطالبة بالثورة والاستقلال
وعقد المؤتمر العربي في باريس سنة 1913م فلم تخرج مقرراته عن تلك المبادئ، ونستطيع أن نذكر بعض هذه الجمعيات، مثلا:
- المنتدى الأدبي: تأسس في استانبول على يد مجموعة من الطلاب العرب، الذين كانوا يدرسون في الأستانة، وانتخب عبد الكريم الخليل، الذي أعدمه جمال باشا فيما بعد، رئيسا له، وكان لهذا النادي اتصال بالحركات القومية العربية.
- جمعية العربية الفتاة: تأسست عام 1909م، بجهود بعض الشبان العرب الذين كانوا يواصلون دراستهم في باريس، وبينوا أن غايتها النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية. وكانت هذه الجمعية على غاية من التنظيم والسرية، وبالرغم من ذلك فقد عملت على الاتصال بالجمعيات والأحزاب العربية ومهدت لعقد المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1913م، وسمي هذا المؤتمر مؤتمر الشهداء، ذلك أن غالبية المشاركين فيه قد أعدموا أو لوحقوا فيما بعد.
لقد كان النشاط الطلابي في سوريا أواخر الدولة العثمانية يركز بداية على الإصلاح، ثم تركز على المطالبة بحقوق العرب في إدارة الدولة، حتى تحول أخيرا للمطالبة بالثورة والاستقلال، وقد حدثت الثورة العربية الكبرى عام 1916، وانفصلت سوريا عن الدول العثمانية عام 1918، ثم وقعت تحت الانتداب الفرنسي منذ العام 1920، وكان الطلاب في كل تلك المراحل يتفاعلون مع المجريات وينشطون وفق الإمكانات المتاحة لهم، وكان تأثرهم بأفكار المثقفين التي تدعو للنهضة والقومية العربية واضحا، مع عدم نفي الدور الأوروبي الاستعماري الذي شجع النزعات الانفصالية لتحقيق مصالحه في المنطقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.