شعار قسم مدونات

الوقوف الروحي على عرفة

عرفات يقع على الطريق بين مدينتي مكة المكرمة والطائف على بعد 10 كيلومترات من مشعر "منى". (رويترز)

اليوم الجمعة هو اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية وفيه يخرج الحجيج من مكة إلى منى ويصلون فيها خمس صلوات وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة، والمبيت بمنى يوم التروية سنة، والقصد منه الاستعداد الروحي ليوم عرفة، وقد سمي بيوم التروية لأن العرب كانوا يملؤون القرب بالماء للشرب منها يوم عرفة.

 الله يباهي ملائكته بتغير هيئة الحجيج وشعرهم، وعلو الغبار والتراب وجوههم استجابة لأمر الله، ومعنى الافتقار والتذلل يحتاجه المسلم في عالم اليوم بطغيان المادية وخفوت الربانية وظهور معاني العلو والاستغناء في حياته.

فيه نستشعر معنى التزود للآخرة وملأ قرب القلوب بالخشية والتقوى، ويوم السبت يوافق يوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة ويسن صيامه لغير الحاج حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم "احتسب على الله أن يغفر السنة التي قبله والسنة التي بعده"، والصواب أن فضل يوم عرفة عام للحاج وغير الحاج؛ لأن نصوص فضله عامة، ويدل عليه أن بعض الصحابة وأئمة السلف كانوا يقومون بالتعريف في المساجد يوم عرفة لغير الحجاج فيجمعون الناس للدعاء لاعتقادهم أن فضل عرفة عام للحاج وغير الحاج، وإن كان الحاج قد جمع بين فضل الزمان والمكان فلا شك أنه أكمل وأفضل.

وعلى غير الحاج الذي لن يقف بعرفة مع الحجاج وقوفا مكانيا أن يقف وقوفا روحيا ومعنويا بروحه وقلبه وفضل الله واسع عسى أن يدركه برحمته فيكون من العتقاء ومستجابي الدعاء في هذا اليوم المبارك، والوقوف المعنوي على عرفة يكون بما يلي:

الافتقار والتذلل

إن جوهر الإسلام في العبودية لله وجوهر العبودية في التذلل والافتقار بين يدي الله عز وجل ومتى بلغ العبد درجة عالية من الافتقار لله استجيب دعاؤه وعلت منزلته، وإنما يباهي الله عز وجل ملائكته بالحجيج يوم عرفة لأنهم أظهروا فقرهم وفاقتهم وذلهم بين يديه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثا غبرا" فمباهاة الله ملائكته تكون بعكس نظرة البشر الذين يتفاخرون بأجمل الثياب وأفخر العطور.

الله يباهي ملائكته بتغير هيئة الحجيج وشعرهم، وعلو الغبار والتراب وجوههم استجابة لأمر الله، ومعنى الافتقار والتذلل يحتاجه المسلم في عالم اليوم بطغيان المادية وخفوت الربانية وظهور معاني العلو والاستغناء في حياته.

الموازنة بين الخوف والرجاء

المتأمل في أحوال السلف على عرفة يلحظ أنهم كانوا يجمعون بين الخوف والرجاء فهذا الفضيل بن عياض يقول عند غروب شمس يوم عرفة وا سوأتاه وإن عفوت، وهذا سفيان الثوري يسأل: من أسوأ الناس حالا في هذا الموقف؟ فيقول: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم، فتقلب في حالك ودعائك غدا بين الطمع في رحمة الله والخوف من عذابه، وبين الأمل في القبول والنجاة، والخوف من عدم القبول، واجمعوا أولادكم في بيوتكم في دعاء فردي وجماعي وحدثوهم عن عرفة وشوقوهم للحج والزيارة.

 على غير الحاج أن يتخيل نفسه واقفا على عرفة بقلبه وروحه وإن حرم الوقوف بجسده، وأنه ربما حرم الوقوف الحقيقي لبعده وعدم أهليته ليكون من أهل الموقف، فيبكي حرقة وخوفا من أن يجتمع عليه الحرمان من إجابة الدعاء مع الحرمان من الوقوف

التضرع والدعاء

أفضل عبادة يوم عرفة هي الدعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي.

فلنكثر من الدعاء يوم عرفة وأحق الناس بالدعاء إخواننا وأهلنا في غزة، ومن أولويات الدعاء، الدعاء بالثبات على الدين مع شيوع التشكيك والإلحاد في أوساط شبابنا؛ فإن من أهم عوامل الثبات على الدين الدعاء بالهداية والاستقامة، والدعاء بالاستمرار على الهداية والاستقامة في القرآن الكريم هو دعاء الراسخين في العلم قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا ‌تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك".

تمثّل حال الواقفين على عرفة

على غير الحاج أن يتخيل نفسه واقفا على عرفة بقلبه وروحه وإن حرم الوقوف بجسده، وأنه ربما حرم الوقوف الحقيقي لبعده وعدم أهليته ليكون من أهل الموقف، فيبكي حرقة وخوفا من أن يجتمع عليه الحرمان من إجابة الدعاء مع الحرمان من الوقوف، حج علي بن الموفق ستين حجة، فلما كانت الحجة الستين أسند ظهره إلى الحجر يتفكر في حجاته وهل قبلت منه أم لا؟ فرأي في المنام من يقول له: هل تدعو أنت إلى بيتك إلا من تحب؟ قال: فاستيقظت وقد سري عني.

التعريف لغير الحاج

ويقصد به اجتماع الناس في مساجد أحيائهم يوم عرفة من غير الحجاج للذكر والدعاء من عصر يوم عرفة إلى غروب الشمس، ولم يختلف العلماء في مشروعية الدعاء الفردي لغير الحاج عشية يوم عرفة في البيوت أو المساجد، ولم يختلفوا في مشروعية اجتماع أهل البيت على الدعاء يوم عرفة، وإنما اختلفوا في الاجتماع في مساجد الأحياء على دعاء جماعي على ثلاثة أقوال:

  • الأول: أنه مكروه وهو رأى الجمهور من الحنفية والمالكية وبعضهم عده بدعة كالإمام مالك.
  • الثاني: أنه مستحب وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي من المفردات.
  • الثالث: الجواز وهو رأي الحنابلة وبعض فقهاء الشافعية، كان الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع يشهدون المسجد يوم عرفة، وقد فعله ابن عباس وعمرو بن حريث رضي الله عنهم من الصحابة، وطائفة من البصريين والمدنيين، وقال الونائي من الشافعية: ولا كراهية في التعريف بغير عرفة، بل هو بدعة حسنة، وهو ججمع الناس بعد العصر يوم عرفة للدعاء والذكر والضراعة إلى الله تعالى إلى غروب الشمس كما يفعل أهل عرفة،  وقال الشرواني: وكذا اعتمد العشماوي عدم الكراهية.

والذي أرجحه أنه لا يدعى للاجتماع في المساجد وأن نثبت الأصل وهو المناجاة الفردية لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]، ولا ننكر على من اجتمع من الناس في المساجد على الدعاء يوم عرفة أو نصف فعله بالبدعة لثبوت التعريف لغير الحاج عن عدد من الصحابة وأئمة السلف ومثلهم لا يقدمون على فعل البدع خاصة أن ابن عباس رضي الله عنه فعله بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة.

اللهم وفقنا لطاعتك يوم عرفة، وأجب دعاءنا، ولا ترد حاجا قصد بيتك الحرام إلا وقد قبلته وأمنته، وفرج الكرب وأوقف الحرب على أهلنا في غزة إنك سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان