شعار قسم مدونات

خواطر زمن الحرب

الدمار في المنازل والأسواق والبنى التحتية جراء القصف الإسرائيلي على مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة
الدمار في المنازل والأسواق والبنى التحتية جراء القصف الإسرائيلي لم يترك مكان آمنا للاجئين في غزة (الجزيرة)

تحاول إظهار شعورك الحقيقي، لكن لا كلمات تصف حقيقة ما تشعر به! بماذا ستبدأ، وهل ستنتهي إن بدأت؟

المشاعر كثيرة لا عدّاد لها.. الشيء الوحيد الذي نقدر على عدّه في أيام الحرب هو أن نَعُدّ نكبتنا ونكستنا، نعد عمرنا الذي يضيع خوفًا ورعبًا في حياةٍ لا نعلم شيئًا منها سوى أنها في أي لحظة من الممكن أن ينتهى عدادها.

أكره صوت كل شيء نهايته ألم ووجع، أكره صوت كل شيء نهايته الموت، أكره صوت كل شيء مُميت في هذه الحرب.

نصطف في طابور الخبز لنعجن العجين، نحتاج ماء ونصطف في طابور الماء، ولنخبز علينا أن نجمع الحطب، ولنجمع الحطب علينا أن نخاطر ونصبح رحالة في أرض غزة المنكوبة، لنجد هذا الحطب.. كل حياتنا في غزة في الحرب، تدور أوقاتها عن كيف نعيش ونحيا فقط.

وقت المغرب، كنت أتحدث مع صديقة لي تعيش خارج غزة، فقالت إنها في معرض، ولأنني أريد أن أسمح لنفسي أن أُجاري الواقع، سألتها عن ماذا يدور في هذا المعرض، فأرسلت صورة للمعرض الذي كان ما يعرضه عبارة عن مسدسات، ولم أجدني حينها إلا خائفةً وأريد البكاء لمجرد رؤيتي لهذه الصورة.. أصبح لدي رهبة وخوف شديد من أن أرى مسدسا ولو كان على هيئة لعبة طفل، كيف سأتخلص من هاجس الحرب اللعين الذي لا ينفكُّ عني؟ أعيشه في واقعي ومنامي، بُتُّ أسيرةً للعذاب النفسي، ومهما داويت نفسي أجدني أغرق في ظلمة اكتئابٍ لا تنتهي.. أين الحياة؟ من أطفأها في عيني هكذا؟

إعلان

أكره صوت الرصاص، الصاروخ، الطيارات الحربية، المدفعية، قذائف الدبابة، البوارج الحربية.. أكره صوت كل شيء نهايته ألم ووجع، أكره صوت كل شيء نهايته الموت، أكره صوت كل شيء مُميت في هذه الحرب.

غفوت فيما بعد، واستيقظت أصرخ حين رأيت نفسي في المنام أسقط من النافذة، حاولت أن أُمسك نفسي بيدي، لكني انفلتُّ.. نظرتُ في عينيَّ، رأيتهما معبأتين بالليل، غارقتين في الخوف، رأيتني وأنا أطير في الهواء، قنصتني رصاصة، أردتني أرضًا، أتحطم، أتكوّم أشلاءً، لحمًا ودمًا وتُرابًا.

عزمت الأمر على الخروج من البيت، وكحال الجميع أعرف أن كل مكان في الحرب خطِر، وكل وقت سيمضي سيكون مقرونًا بخوف من أن اُقتل على حين فجأة

بكيتُ عليَّ كثيرًا، شعرت أن هناك صرخة تقف في صدري عرضًا، ملفوفة، طولها سبعة أشهر حزنا، هرولتُ إلى الدرج، جريت، جريت كثيرا وكأنّي أهرب من شيءٍ عملاق يُلاحقني.. كل ذاك الشيء أنا، كنت أهرب من نفسي، من قلقي، من خوفي، من حربي التي أواجهها، وحربي مع نفسي.

في الصباح التالي استيقظت أتساءل.. ماذا سيحدث لو استبدلنا بصوت صاروخ يسقط صوت المطر حين ينهمل؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بصوت رصاص طائش صوت عصفورٍ يغرّد؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بلون دخان الانفجارات الذي يُرعب الأطفال ألوان قوس قزح لتفرح الأطفال؟

ماذا سيحدث لو استبدلنا برماد البيوت ألوان الحب والسلام؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بغيمة النار المحترقة غيمة سحاب مليئة بالندى؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بالدموع  ضحكاتٍ لا تنتهي؟

ماذا سيحدث لو استبدلنا بالأشجار المتفحمة أزهارًا وورودًا زاهية متفتحة؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بالموت المعقّد حياةً بسيطة؟ ماذا سيحدث لو استبدلنا بالحرب كل مقاييس الحب؟

عزمت الأمر على الخروج من البيت، وكحال الجميع أعرف أن كل مكان في الحرب خطِر، وكل وقت سيمضي سيكون مقرونًا بخوف من أن اُقتل على حين فجأة.

أنا الذي كنت أحترف بيع الأمل، بتّ أتسول مفردة واحدة تنتمي إليه

أمشي في الطرقات، وأٌهدي ضحكة لطفل يتيم يلعب مع دمية بقيت له بعد موت والده وهدْم منزله، أمشي في الطرقات وأنظر إلى ركام البيوت، وأدعو بالرحمة للموتى الذي ما زالوا تحت الأنقاض.. أمشي في الطرقات وأرهُن عمري أن أذكر قصة من لا يجدون من يذكرهم.

إعلان

أمشي في الطرقات وأُهب حنان قلبي لضمّ طفلة تبكي شوقًا لأمها المتوفاة، أمشي في الطرقات وألتزم بالوفاء أن يعلو صوتي ما دمت حية، وأصدح: فلسطين قضيتي، والقضية لا تموت.

تعلمك الحرب جيّدًا كيف تمشي وقدماك متورمتان، وأجنحتك مكسورة ونَفَسك متقطع ومتعب، تُرغمك الدنيا على مواصلة السير رغم جرحك النازف، وروحك المهدورة طاقتها من شدة الألم وفجع الحزن.. وفي الحالتين أنت في جهاد نفسٍ طويل.

هي ليست حربًا فقط، ليست حزنًا فقط، ولا خسارات فقط.. هي كلّ ما يفتك بالروح والقلب والذاكرة، و كل ما يصيب المرء بالجنون.

وأنا الذي كنت أحترف بيع الأمل، بتّ أتسول مفردة واحدة تنتمي إليه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان